لما في الإشعار بلفظة الرب من النظر في مصلحة عبيده ، فلو لا أن في المتشابه مصلحة ما أنزله تعالى ، ولجعل كتابه كله محكما.
(وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : وما يتعظ بنزول المحكم والمتشابه إلّا أصحاب العقول ، إذ هم المدركون لحقائق الأشياء ، ووضع الكلام مواضعه ، ونبه بذلك على أن ما اشتبه من القرآن ، فلا بد من النظر فيه بالعقل الذي جعل مميزا لإدراك : الواجب ، والجائز ، والمستحيل ، فلا يوقف مع دلالة ظاهر اللفظ ، بل يستعمل في ذلك الفكر حتى لا ينسب إلى البارئ تعالى ، ولا إلى ما شرع من أحكامه ، ما لا يجوز في العقل.
وقال ابن عطية : أي ، ما يقول هذا ويؤمن به ، ويقف حيث وقف ، ويدع اتباع المتشابه إلّا ذو لبّ.
وقال الزمخشري : مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل.
(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) ويحتمل أن يكون هذا من جملة المقول أي : يقولون ربنا ، وكأنهم لما رأوا انقسام الناس إلى زائغ ، ومتذكر مؤمن ، دعوا الله تعالى بلفظ الرب أن لا يزيغ قلوبهم بعد هدايتهم ، فيلحقوا بمن في قلبه زيغ ، ويحتمل أن يكون تعالى علمهم هذا الدعاء ، والتقدير : قولوا ربنا.
ومعنى الإزاغة هنا الضلالة. وفي نسبة ذلك إليه تعالى رد على المعتزلة في قولهم : إن الله لا يضل ، إذ لو لم تكن الإزاغة من قبله تعالى لما جاز أن يدعى في رفع ما لا يجوز عليه فعله.
وقال الزجاج : المعنى : لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ بها قلوبنا ، وهذا القول فيه التحفظ من خلق الله الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد.
وقال ابن كيسان : سألوا أن لا يزيغوا ، فيزيغ الله قلوبهم ، نحو : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١) أي : ثبتنا على هدايتك ، وأن لا نزيغ ، فنستحق أن تزيغ قلوبنا. وهذه نزعة اعتزالية ، كما قال الجبائي : لا تمنعها الألطاف التي بها يستمر القلب على صفة الإيمان. ولما منعهم الألطاف لاستحقاقهم منع ذلك ، جاز أن يقال : أزاغهم ، ويدل عليه : فلما زاغوا. وقال الجبائي أيضا : لا تزغنا عن جنتك وثوابك.
__________________
(١) سورة الصف : ٦١ / ٥.