الأفهام. وأصرح من هذه الآية آية المائدة : «فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم» لأنه دل على أنه قد توفّى الوفاة المعروفة التي تحول بين المرء وبين علم ما يقع في الأرض ، وحملها على النوم بالنسبة لعيسى لا معنى له ؛ لأنه إذا أراد رفعه لم يلزم أن ينام ؛ ولأنّ النوم حينئذ وسيلة للرفع فلا ينبغي الاهتمام بذكره وترك ذكر المقصد ، فالقول بأنها بمعنى الرفع عن هذا العالم إيجاد معنى جديد للوفاة في اللغة بدون حجة ، ولذلك قال ابن عباس ، ووهب بن منبه : إنها وفاة موت وهو ظاهر قول مالك في جامع العتبية «قال مالك : مات عيسى وهو ابن إحدى وثلاثين سنة» قال ابن رشد في «البيان والتحصيل» : «يحتمل أنّ قوله : مات وهو ابن ثلاث وثلاثين على الحقيقة لا على المجاز».
وقال الربيع : هي وفاة نوم رفعه الله في منامه ، وقال الحسن وجماعة : معناه إنّي قابضك من الأرض ، ومخلصك في السماء ، وقيل : متوفيك متقبل عملك. والذي دعاهم إلى تأويل معنى الوفاة ما ورد في الأحاديث الصحيحة : أنّ عيسى ينزل في آخر مدّة الدنيا ، فأفهم أنّ له حياة خاصة أخصّ من حياة أرواح بقية الأنبياء ، التي هي حياة أخصّ من حياة بقية الأرواح ؛ فإنّ حياة الأرواح متفاوتة كما دلّ عليه حديث «أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر» ورووا أنّ تأويل المعنى في هذه الآية أولى من تأويل الحديث في معنى حياته وفي نزوله ، فمنهم من تأوّل معنى الوفاة فجعله حيا بحياته الأولى ، ومنهم من أبقى الوفاة على ظاهرها ، وجعل حياته بحياة ثانية ، فقال وهب بن منبه : توفاه الله ثلاث ساعات ورفعه فيها ، ثم أحياه عنده في السماء. وقال بعضهم : توفّي سبع ساعات. وسكت ابن عباس ومالك عن تعيين كيفية ذلك ، ولقد وفّقا وسدّدا. ويجوز أن تكون حياته كحياة سائر الأنبياء ، وأن يكون نزوله ـ إن حمل على ظاهره ـ بعثا له قبل إبان البعث على وجه الخصوصية ، وقد جاء التعبير عن نزوله بلفظ «يبعث الله عيسى فيقتل الدجال» رواه مسلم عن عبد الله بن عمر ، ولا يموت بعد ذلك بل يخلص من هنالك إلى الآخرة.
وقد قيل في تأويله : إنّ عطف (وَرافِعُكَ إِلَيَ) على التقديم والتأخير ؛ إذ الواو لا تفيد ترتيب الزمان أي إنّي رافعك إليّ ثم متوفيك بعد ذلك ، وليس في الكلام دلالة على أنه يموت في آخر الدهر سوى أنّ في حديث أبي هريرة في كتاب أبي داود : «ويمكث (أي عيسى) أربعين سنة ثم يتوفى فيصلّي عليه المسلمون» والوجه أن يحمل قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) على حقيقته ، وهو الظاهر ، وأن تؤوّل الأخبار التي يفيد ظاهرها أنه حيّ على معنى حياة كرامة عند الله ، كحياة الشهداء وأقوى ، وأنه إذا حمل نزوله على ظاهره