و (لِلنَّاسِ) تعريفه إمّا للعهد : وهم الناس الذي خوطبوا بالكتابين ، وإمّا للاستغراق العرفي : فإنّهما وإن خوطب بهما ناس معروفون ، فإنّ ما اشتملا عليه يهتدي به كلّ من أراد أن يهتدي ، وقد تهوّد وتنصّر كثير ممّن لم تشملهم دعوة موسى وعيسى عليهماالسلام ، ولا يدخل في العموم الناس الذين دعاهم محمد صلىاللهعليهوسلم : لأنّ القرآن أبطل أحكام الكتابين ، وأما كون شرع من قبلنا شرعا لنا عند معظم أهل الأصول ، فذلك فيما حكاه عنهم القرآن لا ما يوجد في الكتابين ، فلا يستقيم اعتبار الاستغراق بهذا الاعتبار بل بما ذكرناه.
والفرقان في الأصل مصدر فرق كالشكران والكفران والبهتان ، ثم أطلق على ما يفرق به بين الحق والباطل قال تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) [الأنفال : ٤١] وهو يوم بدر. وسمّي به القرآن قال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) [الفرقان: ١] والمراد بالفرقان هنا القرآن ؛ لأنّه يفرق بين الحق والباطل ، وفي وصفه بذلك تفضيل لهداه على هدى التوراة والإنجيل ؛ لأنّ التفرقة بين الحق والباطل أعظم أحوال الهدي ، لما فيها من البرهان ، وإزالة الشبهة. وإعادة قوله : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) بعد قوله : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) للاهتمام ، وليوصل الكلام به في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) [آل عمران : ٤] الآية أي بآياته في القرآن.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ).
استئناف بياني ممهّد إليه بقوله : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) لأنّ نفس السامع تتطلّع إلى معرفة عاقبة الذين أنكروا هذا التنزيل.
وشمل قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) المشركين واليهود والنصارى في مرتبة واحدة ، لأنّ جميعهم اشتركوا في الكفر بالقرآن ، وهو المراد بآيات الله ـ هنا ـ لأنّه الكتاب الوحيد الذي يصح أن يوصف بأنّه آية من آيات الله ؛ لأنّه معجزة. وعبّر عنهم بالموصول إيجازا ؛ لأنّ الصلة تجمعهم ، والإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو قوله : (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ).
وعطف قوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) على قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) لأنّه من تكملة هذا الاستئناف : لمجيئه مجيء التبيين لشدّة عذابهم ؛ إذ هو عذاب عزيز منتقم كقوله : (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٤٢].