فلا يجدون شيئا يروج عندهم سوى أن يقولوا : إنها ملة إبراهيم ، ومن أجل ذلك اتّبعت في بعض قبائل العرب ، وهنالك أخبار في أسباب النزول تثير هذه الاحتمالات : فروى أنّ وفد نجران قالوا للنبي صلىاللهعليهوسلم حين دعاهم إلى اتباع دينه : «على أي دين أنت ـ قال : على ملة إبراهيم ـ قالوا : فقد زدت فيه ما لم يكن فيه» فعلى هذه الرواية يكون المخاطب بأهل الكتاب هنا خصوص النصارى كالخطاب الذي قبله وروى : أنه تنازعت اليهود ونصارى نجران بالمدينة ، عند النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأدّعي كل فريق أنه على دين إبراهيم دون الآخر ، فيكون الخطاب لأهل الكتاب كلهم ، من يهود ونصارى.
ولعل اختلاف المخاطبين هو الداعي لتكرير الخطاب.
وقوله : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) يكون على حسب الرواية الأولى منعا لقولهم : فقد زدت فيه ما ليس منه ، المقصود منه إبطال أن يكون الإسلام هو دين إبراهيم. وتفصيل هذا المنع : إنكم لا قبل لكم بمعرفة دين إبراهيم ، فمن أين لكم أنّ الإسلام زاد فيما جاء به على دين إبراهيم ، فإنكم لا مستند لكم في علمكم بأمور الدين إلّا التوراة والإنجيل ، وهما قد نزلا من بعد إبراهيم ، فمن أين يعلم ما كانت شريعة إبراهيم حتى يعلم المزيد عليها ، وذكر التوراة على هذا لأنها أصل الإنجيل. ويكون على حسب الرواية الثانية نفيا لدعوى كلّ فريق منهما أنه على دين إبراهيم ، بأنّ دين اليهود هو التوراة ، ودين النصارى هو الإنجيل ، وكلاهما نزل بعد إبراهيم ، فكيف يكون شريعة له. قال الفخر : يعني ولم يصرّح في أحد هذين الكتابين بأنه مطابق لشريعة إبراهيم ، فذكر التوراة والإنجيل على هذا نشر بعد اللف : لأنّ أهل الكتاب شمل الفريقين ، فذكر التوراة لإبطال قول اليهود ، وذكر الإنجيل لإبطال قول النصارى ، وذكر التوراة والإنجيل هنا لقصد جمع الفريقين في التخطئة ، وإن كان المقصود بادئ ذي بدء هم النصارى الذين مساق الكلام معهم.
والأظهر عندي في تأليف المحاجة ينتظم من مجموع قوله : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) وقوله : (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فيبطل بذلك دعواهم أنهم على دين إبراهيم ، ودعواهم أنّ الإسلام ليس على دين إبراهيم ، ويثبت عليهم أنّ الإسلام على دين إبراهيم ، وذلك أنّ قوله : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) يدل على أنّ علمهم في الدين منحصر فيهما ، وهما نزلا بعد إبراهيم فلا جائز أن يكونا عين صحف إبراهيم.