كان لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك آنس بها في قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣] فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن على الطريقة العربية السلبية». اه.
وقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) قيد قصد منه تشنيع القول بأن يكونوا عبادا للقائل بأنّ ذلك يقتضي أنهم انسلخوا عن العبودية لله تعالى إلى عبودية البشر ، لأنّ حقيقة العبودية لا تقبل التجزئة لمعبودين ، فإنّ النصارى لما جعلوا عيسى ربّا لهم ، وجعلوه ابنا لله ، قد لزمهم أنهم انخلعوا عن عبودية الله فلا جدوى لقولهم : نحن عبد الله وعبيد عيسى ، فلذلك جعلت مقالتهم مقتضية أنّ عيسى أمرهم بأن يكونوا عبادا له دون الله ، والمعنى أنّ الآمر بأن يكون الناس عبادا له هو آمر بانصرافهم عن عبادة الله. (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) أي ولكن يقول كونوا ربانيين أي كونوا منسوبين للربّ ، وهو الله تعالى ، لأنّ النسب إلى الشيء إنما يكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه.
ومعنى ذلك أن يكونوا مخلصين لله دون غيره.
والربّاني نسبة إلى الرب على غير قياس كما يقال اللّحياني لعظيم اللحية ، والشّعراني لكثير الشعر.
وقوله : (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ) أي لأنّ علمكم الكتاب من شأنه أن يصدّكم عن إشراك العبادة ، فإنّ فائدة العلم العمل.
وقرأ الجمهور : بما كنتم تعلمون ـ بفتح المثناة الفوقية وسكون العين وفتح اللام ـ مضارع علم. وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : بضم ففتح فلام مشدّدة مكسورة مضارع علّم المضاعف.
و (تَدْرُسُونَ) معناه تقرءون أي قراءة بإعادة وتكرير : لأنّ مادّة درس في كلام العرب تحوم حول معاني التأثر من تكرّر عمل يعمل في أمثاله ، فمنه قولهم : درست الريح رسم الدار إذا عفته وأبلته ، فهو دارس ، يقال منزل دارس ، والطريق الدارس العافي الذي لا يتبين. وثوب دارس خلق ، وقالوا : درس الكتاب إذا قرأه بتمهّل لحفظه ، أو للتدبّر ، وفي الحديث : «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلّا نزلت عليهم السكينة إلخ» رواه الترمذي فعطف التدارس على القراءة فعلم أنّ الدراسة أخصّ من القراءة. وسموا بيت قراءة اليهود مدراسا كما في الحديث : إنّ النبي صلىاللهعليهوسلم خرج