وأبصارا فإنّ ذلك لا ينقض بمن ولد أكمه أو عرض له ما أزال بعض ذلك.
قال ابن العربي : هذا خبر عمّا كان وليس فيه إثبات حكم وإنّما هو تنبيه على آيات ونعم متعددات ؛ أنّ الله سبحانه قد كان صرف القلوب عن القصد إلى معارضته ، وصرف الأيدي عن إذايته. وروي هذا عن الحسن. وإذا كان ذلك خبرا فهو خبر عمّا مضى قبل مجيء شريعة الإسلام حين لم يكن لهم في الجاهلية وازع فلا ينتقض بما وقع فيه من اختلال الأمن في القتال بين الحجّاج وابن الزبير وفي فتنة القرامطة. وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) أوّل هذه السورة [آل عمران : ٧].
ومن العلماء من حمل قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) أنّه خبر مستعمل في الأمر بتأمين داخله من أن يصاب بأذى ، وروي عن ابن عبّاس ، وابن عمر ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، والشعبي.
وقد اختلف الصائرون إلى هذا المعنى في محمل العمل بهذا الأمر ؛ فقال جماعة : هذا حكم نسخ يعنون نسخته الأدلّة الّتي دلّت على أنّ الحرم لا يعيذ عاصيا. روى البخاري ، عن أبي شريح الكعبي ، أنّه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكّة ـ أي لحرب ابن الزبير ـ : ائذن لى أيّها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله الغد من يوم الفتح ، سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلّم به : إنّه حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «إنّ مكّة حرّمها الله ولم يحرّمها النّاس ؛ لا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة. فإن أحد ترخّص لقتال رسول الله فيها فقولوا له : إنّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنّما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلّغ الشاهد الغائب». قال : فقال لي عمرو : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إنّ الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارّا بدم ولا فارّا بخربة (الخربة ـ بفتح الخاء وسكون الراء ـ الجناية والبلية الّتي تكون على النّاس) وبما ثبت أنّ النّبيء صلىاللهعليهوسلم أمر بأن يقتل ابن خطل وهو متعلّق بأستار الكعبة يوم الفتح.
وقد قال مالك ، والشّافعى : إنّ من أصاب جناية في الحرم أو خارجه ثمّ عاذ بالحرم يقام عليه الحدّ في الحرم ويقاد منه.
وقال أبو حنيفة ، وأصحابه الأربعة : لا يقتصّ في الحرم من اللاجئ إليه من خارجه ما دام فيه ؛ ولكنّه لا يبايع ولا يؤاكل ولا يجالس إلى أن يخرج من الحرم. ويروون ذلك عن ابن عبّاس ، وابن عمر ، ومن ذكرناه معهما آنفا.