وفي هذه الآية من صيغ الوجوب صيغتان : لام الاستحقاق ، وحرف (على) الدال على تقرّر حقّ في ذمة المجرور بها. وقد تعسّر أو تعذّر قيام المسلمين بأداء الحجّ عقب نزولها ، لأنّ المشركين كانوا لا يسمحون لهم بذلك ، فلعلّ حكمة إيجاب الحجّ يومئذ أن يكون المسلمون على استعداد لأداء الحجّ مهما تمكّنوا من ذلك ، ولتقوم الحجّة على المشركين بأنّهم يمنعون هذه العبادة ، ويصدّون عن المسجد الحرام ، ويمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه.
وقوله : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) بدل من النّاس لتقييد حال الوجوب ، وجوّز الكسائي أن يكون فاعل حجّ ، وردّ بأنّه يصير الكلام : لله على سائر النّاس أن يحجّ المستطيع منهم ، ولا معنى لتكليف جميع النّاس بفعل بعضهم ، والحقّ أنّ هذا الردّ لا يتّجه لأنّ العرب تتفنّن في الكلام لعلم السامع بأنّ فرض ذلك على النّاس فرض مجمل يبيّنه فاعل حجّ ، وليس هو كقولك : استطاع الصّوم ، أو استطاع حمل الثقل ، ومعنى (اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وجد سبيلا وتمكّن منه ، والكلام بأواخره. والسّبيل هنا مجاز فيما يتمكّن به المكلّف من الحجّ.
وللعلماء في تفسير السبيل أقوال اختلفت ألفاظها ، واتّحدت أغراضها ، فلا ينبغي بقاء الخلاف بينهم لأجلها مثبتا في كتب التّفسير وغيرها ، فسبيل القريب من البيت الحرام سهل جدا ، وسبيل البعيد الراحلة والزاد ، ولذلك قال مالك : السبيل القدرة والنّاس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم. واختلف فيمن لا زاد له ويستطيع الاحتراف في طريقه : فقال مالك : إذا كان ذلك لا يزري فليسافر ويكتسب في طريقه ، وقال بمثله ابن الزبير ، والشعبي ، وعكرمة. وعن مالك كراهية السفر في البحر للحجّ إلا لمن لا يجد طريقا غيره كأهل الأندلس ، واحتجّ بأنّ الله تعالى قال : (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) [الحج : ٢٧] ولم أجد للبحر ذكرا. قال الشيخ ابن عطية : هذا تأنيس من مالك وليست الآية بالّتي تقتضي سقوط سفر البحر. وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ناس من أمّتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر» وهل الجهاد إلّا عبادة كالحجّ ، وكره ماك للمرأة السّفر في البحر لأنّه كشفة لها ، وكلّ هذا إذا كانت السّلامة هي الغالب وإلا لم يجز الإلقاء إلى التهلكة ، وحال سفر البحر اليوم أسلم من سفر البرّ إلّا في أحوال عارضة في الحروب إذا شملت البحار.
وظاهر قوله تعالى : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أنّ الخطاب بالحجّ والاستطاعة للمرء