شاع بين النّاس من أنّ ساعة الموت أمر غير معلوم كما قال الصدّيق :
كلّ امرئ مصبّح في أهله |
|
والموت أدنى من شراك نعله |
فالنهي عن الموت على غير الإسلام يستلزم النّهي عن مفارقة الإسلام في سائر أحيان الحياة ، ولو كان المراد به معناه الأصلي ، لكان ترخيصا في مفارقة الإسلام إلّا عند حضور الموت ، وهو معنى فاسد وقد تقدّم ذلك في قوله تعالى : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
وقوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) ثنّى أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم لأخراهم ، بأمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم ، وذلك بالاجتماع على هذا الدّين وعدم التّفرّق ليكتسبوا باتّحادهم قوّة ونماء. والاعتصام افتعال من عصم وهو طلب ما يعصم أي يمنع.
والحبل : ما يشدّ به للارتقاء ، أو التدلّي ، أو للنّجاة من غرق ، أو نحوه ، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفافهم على دين الله ووصاياه وعهوده بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقى إليهم من منقذ لهم من غرق أو سقوط ، وإضافة الحبل إلى الله قرينة هذا التّمثيل. وقوله : (جَمِيعاً) حال وهو الّذي رجّح إرادة التّمثيل ، إذ ليس المقصود الأمر باعتصام كلّ مسلم في حال انفراده اعتصاما بهذا الدّين ، بل المقصود الأمر باعتصام الأمّة كلّها ، ويحصل في ضمن ذلك أمر كلّ واحد بالتّمسك بهذا الدّين ، فالكلام أمر لهم بأن يكونوا على هاته الهيئة ، وهذا هو الوجه المناسب لتمام البلاغة لكثرة ما فيه من المعاني ، ويجوز أن يستعار الاعتصام للتّوثيق بالدّين وعهوده ، وعدم الانفصال عنه ، ويستعار الحبل للدّين والعهود كقوله : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١١٢] ويكون كلّ من الاستعارتين ترشيحا للأخرى ، لأنّ مبنى التّرشيح على اعتبار تقوية التّشبيه في نفس السامع ، وذلك يحصل له بمجرد سماع لفظ ما هو من ملائمات المستعار ، بقطع النّظر عن كون ذلك الملائم معتبرة فيه استعارة أخرى ، إذ لا يزيده ذلك الاعتبار إلّا قوّة. وليست الاستعارة بوضع اللّفظ في معنى جديد حتّى يتوهّم متوهّم أنّ تلك الدّلالة الجديدة ، الحاصلة في الاستعارة الثّانية ، صارت غير ملائمة لمعنى المستعار في الاستعارة الأخرى ، وإنّما هي اعتبارات لطيفة تزيد كثرتها الكلام حسنا. وقريب من هذا التورية ، فإنّ فيها حسنا بإيهام أحد المعنيين مع إرادة غيره ، ولا شكّ أنّه عند إرادة غيره لا يكون المعنى الآخر مقصودا ، وفي هذا الوجه لا يكون الكلام صريحا في الأمر بالاجتماع على الدّين