بل ظاهره أنّه أمر للمؤمنين بالتمسّك بالدّين فيؤول إلى أمر كلّ واحد منهم بذلك على ما هو الأصل في معنى مثل هذه الصّيغة ويصير قوله : (جَمِيعاً) محتملا لتأكيد العموم المستفاد من واو الجماعة.
وقوله : (وَلا تَفَرَّقُوا) تأكيد لمضمون اعتصموا جميعا كقولهم : ذممت ولم تحمد. على الوجه الأول في تفسير (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً). وأمّا على الوجه الثّاني فيكون قوله : (وَلا تَفَرَّقُوا) أمرا ثانيا للدلالة على طلب الاتّحاد في الدّين ، وقد ذكرنا أنّ الشيء قد يؤكّد بنفي ضدّه عند قوله تعالى : (قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) في سورة الأنعام [١٤٠] وفي الآية دليل على أنّ الأمر بالشيء يستلزم النّهي عن ضدّه.
وقوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) تصوير لحالهم الّتي كانوا عليها ليحصل من استفظاعها انكشاف فائدة الحالة الّتي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جميعا بجامعة الإسلام الّذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة ، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله تعالى ، الّذي اختار لهم هذا الدّين ، وفي ذلك تحريض على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتّفاق. والتّذكير بنعمة الله تعالى طريق من طرق مواعظ الرّسل. قال تعالى حكاية عن هود : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف : ٦٩] وقال عن شعيب : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) [الأعراف : ٨٦] وقال الله لموسى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ٥]. وهذا التّذكير خاصّ بمن أسلم من المسلمين بعد أن كان في الجاهلية ، لأنّ الآية خطاب للصّحابة ولكن المنّة به مستمرة على سائر المسلمين ، لأن كلّ جيل يقدّر أن لو لم يسبق إسلام الجيل الّذي قبله لكانوا هم أعداء وكانوا على شفا حفرة من النّار.
والظرفية في قوله : (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) معتبر فيها التّعقيب من قوله : (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) إذ النعمة لم تكن عند العداوة ، ولكن عند حصول التأليف عقب تلك العداوة.
والخطاب للمؤمنين وهم يومئذ المهاجرون والأنصار وأفراد قليلون من بعض القبائل القريبة ، وكان جميعهم قبل الإسلام في عداوة وحروب ، فالأوس والخزرج كانت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة قبل الهجرة ، ومنها كان يوم بعاث ، والعرب كانوا في حروب وغارات (١) بل وسائر الأمم الّتي دعاها الإسلام كانوا في تفرّق وتخاذل فصار
__________________
(١) كانت قبائل العرب أعداء بعضهم لبعض فما وجدت قبيلة غرّة من الأخرى إلا شنّت عليها الغارة. وما وجدت الأخرى فرصة إلا نادت بالثارة. وكذلك تجد بطون القبيلة الواحدة وكذلك تجد بني ـ