وفي هذا محسّن التجريد : جرّدت من المخاطبين أمّة أخرى للمبالغة في هذا الحكم كما يقال : لفلان من بنيه أنصار. والمقصود : ولتكونوا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر حتّى تكونوا أمّة هذه صفتها ، وهذا هو الأظهر فيكون جميع أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد خوطبوا بأن يكونوا دعاة إلى الخير ، ولا جرم فهم الّذين تلقوا الشّريعة من رسول الله صلىاللهعليهوسلم مباشرة ، فهم أولى النّاس بتبليغها. وأعلم بمشاهدها وأحوالها ، ويشهد لهذا قوله صلىاللهعليهوسلم في مواطن كثيرة : «ليبلغ الشاهد الغائب ألا هل بلّغت» وإلى هذا المحمل مال الزجاج وغير واحد من المفسّرين ، كما قاله ابن عطية.
ويجوز أيضا على اعتبار الضّمير خطابا لأصحاب محمّد صلىاللهعليهوسلم ، أن تكون (من) للتبعيض ، والمراد من الأمّة الجماعة والفريق ، أي : وليكن بعضكم فريقا يدعون إلى الخير فيكون الوجوب على جماعة من الصّحابة فقد قال ابن عطية : قال الضّحاك ، والطبري : أمر المؤمنين أن تكون منهم جماعة بهذه الصّفة. فهم خاصّة أصحاب الرسول وهم خاصّة الرواة.
وأقول : على هذا يثبت حكم الوجوب على كلّ جيل بعدهم بطريق القياس لئلا يتعطّل الهدى. ومن النّاس من لا يستطيع الدّعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر قال تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) [التوبة : ١٢٢] الآية.
وإن كان الخطاب بالضّمير لجميع المؤمنين تبعا لكون المخاطب بيا أيها الّذين آمنوا إيّاهم أيضا ، كانت (من) للتبعيض لا محالة ، وكان المراد بالأمّة الطائفة إذ لا يكون المؤمنون كلّهم مأمورين بالدعاء إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، بل يكون الواجب على الكفاية وإلى هذا المعنى ذهب ابن عطية ، والطبري ، ومن تبعهم ، وعلى هذا فيكون المأمور جماعة غير معيّنة وإنما المقصود حصول هذا الفعل الّذى فرض على الأمّة وقوعه.
على أنّ هذا الاعتبار لا يمنع من أن تكون (من) بيانية بمعنى أن يكونوا هم الأمّة ويكون المراد بكونهم يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، إقامة ذلك فيهم وأن لا يخلوا عن ذلك على حسب الحاجة ومقدار الكفاءة للقيام بذلك ، ويكون هذا جاريا على المعتاد عند العرب من وصف القبيلة بالصّفات الشائعة فيها الغالبة على أفرادها كقولهم : باهلة لئام ، وعذرة عشّاق.