وعلى هذه الاعتبارات تجري الاعتبارات في قوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) كما سيأتي.
إنّ الدعوة إلى الخير تتفاوت : فمنها ما هو بيّن يقوم به كلّ مسلم ، ومنها ما يحتاج إلى علم فيقوم به أهله ، وهذا هو المسمّى بفرض الكفاية ، يعني إذا قام به بعض النّاس كفى عن قيام الباقين ، وتتعيّن الطائفة الّتي تقوم بها بتوفّر شروط القيام بمثل ذلك الفعل فيها. كالقوة على السلاح في الحرب ، وكالسباحة في إنقاذ الغريق ، والعلم بأمور الدّين في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وكذلك تعيّن العدد الّذي يكفي للقيام بذلك الفعل مثل كون الجيش نصف عدد جيش العدوّ ، ولمّا كان الأمر يستلزم متعلّقا فالمأمور في فرض الكفاية الفريق الّذين فيهم الشروط ، ومجموع أهل البلد ، أو القبيلة ، لتنفيذ ذلك ، فإذا قام به العدد الكافي ممّن فيهم الشروط سقط التكليف عن الباقين ، وإذا لم يقوموا به كان الإثم على البلد أو القبيلة ، لسكوت جميعهم ، ولتقاعس الصّالحين للقيام بذلك ، مع سكوتهم أيضا ثمّ إذا قام به البعض فإنّما يثاب البعض خاصّة.
ومعنى الدعاء إلى الخير الدعاء إلى الإسلام ، وبثّ دعوة النّبيء صلىاللهعليهوسلم ، فإنّ الخير اسم يجمع خصال الإسلام : ففي حديث حذيفة بن اليمان «قلت : يا رسول الله إنّا كنّا في جاهلية وشرّ فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شرّ» الحديث ، ولذلك يكون عطف الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عليه من عطف الشيء على مغايره ، وهو أصل العطف. وقيل : أريد بالخير ما يشمل جميع الخيرات ، ومنها الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، فيكون العطف من عطف الخاصّ على العامّ للاهتمام به.
وحذفت مفاعيل يدعون ويأمرون وينهون لقصد التّعميم أي يدعون كلّ أحد كما في قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) [يونس : ٢٥].
والمعروف هو ما يعرف وهو مجاز في المقبول المرضي به ، لأنّ الشيء إذا كان معروفا كان مألوفا مقبولا مرضيّا به ، وأريد به هنا ما يقبل عند أهل العقول ، وفي الشّرائع ، وهو الحقّ والصلاح ، لأنّ ذلك مقبول عند انتفاء العوارض.
والمنكر مجاز في المكروه ، والكره لازم للإنكار لأنّ النكر في أصل اللّسان هو الجهل ومنه تسمية غير المألوف نكرة ، وأريد به هنا الباطل والفساد ، لأنّهما من المكروه في الجبلّة عند انتفاء العوارض.