والتّعريف في (الخير ـ والمعروف ـ والمنكر) تعريف الاستغراق ، فيفيد العموم في المعاملات بحسب ما ينتهي إليه العلم والمقدرة فيشبه الاستغراق العرفي.
ومن المفسّرين من عيّن جعل (من) في قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) للبيان ، وتأوّل الكلام بتقدير تقديم البيان على المبيّن فيصير المعنى : ولتكن أمّة هي أنتم أي ولتكونوا أمّة يدعون محاولة للتسوية بين مضمون هذه الآية ، ومضمون قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) [آل عمران : ١١٠] الآية. ومساواة معنيي الآيتين غير متعيّنة لجواز أن يكون المراد من خير أمّة هاته الأمّة ، الّتي قامت بالأمر بالمعروف ، على ما سنبيّنه هنالك.
والآية أوجبت أن تقوم طائفة من المسلمين بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، ولا شكّ أن الأمر والنّهي من أقسام القول والكلام ، فالمكلّف به هو بيان المعروف ، والأمر به ، وبيان المنكر ، والنّهي عنه ، وأمّا امتثال المأمورين والمنهيين لذلك ، فموكول إليهم أو إلى ولاة الأمور الّذين يحملونهم على فعل ما أمروا به ، وأمّا ما وقع في الحديث : «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» فذلك مرتبة التغيير ، والتّغيير يكون باليد ، ويكون بالقلب ، أي تمنّى التّغيير ، وأمّا الأمر والنّهي فلا يكونان بهما.
والمعروف والمنكر إن كانا ضروريين كان لكلّ مسلم أن يأمر وينهى فيهما ، وإن كانا نظريّين ، فإنّما يقوم بالأمر والنّهي فيهما أهل العلم.
وللأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر شروط مبيّنة في الفقه والآداب الشرعية ، إلّا أنّي أنبّه إلى شرط ساء فهم بعض النّاس فيه وهو قول بعض الفقهاء : يشترط أن لا يجرّ النّهي إلى منكر أعظم. وهذا شرط قد خرم مزيّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، واتّخذه المسلمون ذريعة لترك هذا الواجب. ولقد ساء فهمهم فيه إذا مراد مشترطه أن يتحقّق الآمر أنّ أمره يجرّ إلى منكر أعظم لا أن يخاف أو يتوهّم إذ الوجوب قطعي لا يعارضه إلّا ظنّ أقوى.
ولمّا كان تعيين الكفاءة للقيام بهذا الفرض ، في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، لتوقّفه على مراتب العلم بالمعروف والمنكر ، ومراتب القدرة على التّغيير ، وإفهام النّاس ذلك ، رأى أئمة المسلمين تعيين ولاة للبحث عن المناكر وتعيين كيفية القيام بتغييرها ، وسمّوا تلك الولاية بالحسبة ، وقد أولى عمر بن الخطّاب في هاته الولاية أم الشفاء ،