وقوله : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) أي رأيتم الموت ، ومعنى رؤيته مشاهدة أسبابه المحقّقة ، الّتي رؤيتها كمشاهدة الموت ، فيجوز أن يكون قوله : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) تمثيلا ، ويجوز أن تطلق الرؤية على شدّة التوقّع ، كإطلاق الشمّ على ذلك في قول الحارث بن هشام المخزومي:
وشممت ريح الموت من تلقائهم |
|
في مأزق والخيل لم تتبدّد |
وكإطلاقه في قول ابن معد يكرب يوم القادسية : فضمّني ضمّة وجدت منها ريح الموت.
والفاء في قوله : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) فاء الفصيحة عن قوله : (كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ) والتقدير : وأجبتم إلى ما تمنّيتم فقد رأيتموه ، أو التقدير : فإن كان تمنّيكم حقّا فقد رأيتموه ، والمعنى : فأين بلاء من يتمنّى الموت ، كقول عباس بن الأحنف :
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا |
|
ثمّ القفول فقد جئنا خراسانا |
ومنه قوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) [الفرقان : ١٩] وقوله في سورة الروم [٥٦] : (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ).
وجملة (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) حال مؤكّدة لمعنى (رَأَيْتُمُوهُ) ، أو هو تفريع أي : رأيتم الموت وكان حظّكم من ذلك النظر ، دون الغناء في وقت الخطر ، فأنتم مبهوتون. ومحلّ الموعظة من الآية : أنّ المرء لا يطلب أمرا حتّى يفكّر في عواقبه ، ويسبر مقدار تحمّله لمصائبه. ومحلّ المعذرة في قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) وقوله : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) ومحلّ الملام في قوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).
ويحتمل أن يكون قوله : (تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) بمعنى تتمنّون موت الشهادة في سبيل الله فقد رأيتم مشارفة الموت إياكم ، وأنتم تنظرون من مات من إخوانكم ، أي فكيف وجدتم أنفسكم حين رأيتم الموت ، وكأنّه تعريض بهم بأنّهم ليسوا بمقام من يتمنّى الشهادة. إذ قد جبنوا وقت الحاجة ، وخفّوا إلى الغنيمة ، فالكلام ملام محض على هذا ، وليس تمنّي الشهادة بملوم عليه ، ولكن اللّوم على تمنّي ما لا يستطيع كما قيل : (إذ لم تستطع شيئا فدعه). كيف وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ولوددت أنّي أقتل في سبيل الله ، ثمّ أحيا ثمّ أقتل ثمّ أحيا ، ثمّ أقتل». وقال عمر : اللهم إنّي أسألك شهادة في سبيلك» وقال ابن رواحة :
لكنّني أسأل الرّحمن مغفرة |
|
وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا |