فالجملة ، على هذا ، معترضة ، والواو اعتراضية ، ومثل هذه الحقائق تلقى في المقامات الّتي يقصد فيها مداواة النّفوس من عاهات ذميمة ، وإلّا فإنّ انتهاء الأجل منوط بعلم الله لا يعلم أحد وقته ، (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان : ٣٤] ، والمؤمن مأمور بحفظ حياته ، إلّا في سبيل الله ، فتعيّن عليه في وقت الجهاد أن يرجع إلى الحقيقة وهي أنّ الموت بالأجل ، والمراد (بِإِذْنِ اللهِ) تقديره وقت الموت ، ووضعه العلامات الدالة على بلوغ ذلك الوقت المقدّر ، وهو ما عبّر عنه مرّة ب (كن) ، ومرة بقدر مقدور ، ومرّة بالقلم ، ومرّة بالكتاب.
والكتاب في قوله : (كِتاباً مُؤَجَّلاً) يجوز أن يكون اسما بمعنى الشيء المكتوب ، فيكون حالا من الإذن ، أو من الموت ، كقوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد : ٣٨] و «مؤجّلا» حالا ثانية ، ويجوز أن يكون (كِتاباً) مصدر كاتب المستعمل في كتب للمبالغة ، وقوله : (مُؤَجَّلاً) صفة له ، وهو بدل من فعله المحذوف ، والتّقدير : كتب كتابا مؤجّلا أي مؤقتا. وجعله صاحب «الكشاف» مصدرا مؤكّدا أي لمضمون جملة (وَما كانَ لِنَفْسٍ) الآية ، وهو يريد أنّه مع صفته وهي (مُؤَجَّلاً) يؤكّد معنى (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) لأنّ قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) يفيد أنّ له وقتا قد يكون قريبا وقد يكون بعيدا فهو كقوله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٤] بعد قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] الآية.
(وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ).
عطف على الجملة المعترضة.
أي من يرد الدنيا دون الآخرة ، كالّذي يفضّل الحياة على الموت في سبيل الله أو كالّذين استعجلوا للغنيمة فتسبّبوا في الهزيمة ، وليس المراد أنّ من أراد ثواب الدنيا وحظوظها يحرم من ثواب الآخرة وحظوظها ، فإنّ الأدلّة الشرعية دلّت على أنّ إرادة خير الدنيا مقصد شرعي حسن ، وهل جاءت الشريعة إلّا لإصلاح الدنيا والإعداد لحياة الآخرة الأبدية الكاملة ، قال الله تعالى : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) [آل عمران : ١٤٨] وقال تعالى : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) أي الغنيمة أو الشّهادة ، وغير هذا من الآيات والأحاديث كثير. وجملة (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) تذييل يعمّ الشاكرين ممّن يريد ثواب الدنيا ومن يريد ثواب الآخرة. ويعمّ الجزاء كلّ بحسبه ، أي يجزي الشاكرين جزاء الدنيا والآخرة أو جزاء الدنيا فقط.