شأنه إذ قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، إذ قد غني الله عن إعانة المخلوقات في الرأي ولكنّه عرض على الملائكة مراده ليكون التّشاور سنّة في البشر ضرورة أنّه مقترن بتكوينه ، فإنّ مقارنة الشيء للشيء في أصل التكوين يوجب إلفه وتعارفه ، ولمّا كانت الشورى معنى من المعاني لا ذات لها في الوجود جعل الله إلفها للبشر بطريقة المقارنة في وقت التكوين. ولم تزل الشورى في أطوار التاريخ رائجة في البشر فقد استشار فرعون في شأن موسى ـ عليهالسلام ـ فيما حكى الله عنه بقوله : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) [الأعراف : ١١٠]. واستشارت بلقيس في شأن سليمان ـ عليهالسلام ـ فيما حكى الله عنها بقوله : (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) وإنّما يلهي النّاس عنها حبّ الاستبداد ، وكراهية سماع ما يخالف الهوى ، وذلك من انحراف الطبائع وليس من أصل الفطرة ، ولذلك يهرع المستبدّ إلى الشورى عند المضائق. قال ابن عبد البرّ في بهجة المجالس : الشورى محمودة عند عامّة العلماء ولا أعلم أحدا رضي الاستبداد إلّا رجل مفتون مخادع لمن يطلب عنده فائدة ، أو رجل فاتك يحاول حين الغفلة ، وكلا الرجلين فاسق. ومثل أوّلهما قول عمر بن أبي ربيعة :
واستبدّت مرّة واحدة |
|
إنّما العاجز من لا يستبدّ |
ومثل ثانيهما قول سعد بن ناشب :
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه |
|
ونكّب عن ذكر العواقب جانبا |
ولم يستشر في أمره غير نفسه |
|
ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا |
ومن أحسن ما قيل في الشورى قول بشار بن برد :
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن |
|
بحزم نصيح أو نصيحة حازم |
ولا تحسب الشورى عليك غضاضة |
|
مكان الخوافي قوّة للقوادم |
وهي أبيات كثيرة مثبتة في كتب الأدب.
وقوله : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) العزم هو تصميم الرأي على الفعل وحذف متعلّق (عزمت) لأنّه دلّ عليه التفريع عن قوله : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ، فالتقدير : فإذا عزمت على الأمر. وقد ظهر من التفريع أنّ المراد : فإذا عزمت بعد الشورى أي تبيّن لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فعزمت على تنفيذه سواء كان على وفق بعض آراء أهل الشورى أم كان رأيا آخر لاح للرّسول سداده فقد يخرج من آراء أهل الشورى رأي ، وفي