على المصيبة ، وفي ضمن ذلك تنبيه إلى أنّ نصر الله قوما في بعض الأيّام ، وخذله إيّاهم في بعضها ، لا يكون إلّا لحكم وأسباب ، فعليهم السعي في أسباب الرضا الموجب للنصر ، وتجنّب أسباب السخط الموجب للخذل كما أشار إليه قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] وقوله : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) [آل عمران : ١٥٣] وقوله الآتي : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا) [آل عمران : ١٦٥] وعليهم التطلّب للأسباب الّتي قدر لهم النّصر لأجلها في مثل يوم بدر ، وأضدادها الّتي كان بها الخذل في يوم أحد ، وفي التفكير في ذلك مجال واسع لمكاشفات الحقائق والعلل والأسباب والحكم والمنافع والمضارّ على قدر سعة التفكير الجائل في ذلك ، ففي هذا الخبر العظيم إطلاق للأفكار من عقالها ، وزجّ بها في مسارح العبر ، ومراكض العظات ، والسابقون الجياد ، فالخبر مستعمل في لازم معناه وهو الحضّ على تحصيل ذلك. وعلى هذا الوجه تظهر مناسبة موقع هذا الاستئناف عقب ما تقدّمه : لأنّه بعد أن خاطبهم بفنون الملام والمعذرة والتسلية من قوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) [آل عمران : ١٣٧] إلى هنا ، جمع لهم كلّ ذلك في كلام جامع نافع في تلقّي الماضي ، وصالح للعمل به في المستقبل ، ويجوز أن يكون الإخبار مبنيّا على تنزيل العالم منزلة الجاهل ، حيث أظهروا من الحرص على الغنيمة ومن التأوّل في أمر الرسول لهم في الثبات ، ومن التلهّف على ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجرح ، ما جعل حالهم كحال من يجهل أنّ النصر والخذل بيد الله تعالى. فالخبر مستعمل في معناه على خلاف مقتضى الظاهر.
والنّصر : الإعانة على الخلاص من غلب العدوّ ومريد الإضرار.
والخذلان ضدّه : وهو إمساك الإعانة مع القدرة ، مأخوذ من خذلت الوحشية إذا تخلفت عن القطيع لأجل عجز ولدها عن المشي.
ومعنى (إِنْ يَنْصُرْكُمُ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) إن يرد هذا لكم ، وإلّا لما استقام جواب الشرط الأوّل ، وهو (فَلا غالِبَ لَكُمْ) إذ لا فائدة في ترتيب عدم الغلب على حصول النصر بالفعل ، ولا سيما مع نفي الجنس في قوله : (فَلا غالِبَ لَكُمْ) ، لأنّه يصير من الإخبار بالمعلوم ، كما تقول : إن قمت فأنت لست بقاعد. وأمّا فعل الشرط الثّاني وهو : (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) فيقدّر كذلك حملا على نظيره ، وإن كان يستقيم المعنى بدون تأويل فيه. وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] الآية.