أحياء الأرواح ، حياة زائدة على حقيقة بقاء الأرواح ، غير مضمحلّة ، بل هي حياة بمعنى تحقّق آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارّة لأنفسهم ، ومسرّتهم بإخوانهم ، ولذلك كان قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) دليلا على أنّ حياتهم حياة خاصّة بهم ، ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم ، أعني حياة الأجسام وجريان الدم في العروق ، ونبضات القلب ، ولا هي حياة الأرواح الثابتة لأرواح جميع الناس ، وكذلك الرزق يجب أن يكون ملائما لحياة الأرواح وهو رزق النعيم في الجنّة. فإن علّقنا (عِنْدَ رَبِّهِمْ) بقوله : (أَحْياءٌ) كما هو الظاهر ، فالأمر ظاهر ، وإن علقناه بقوله : (يُرْزَقُونَ) فكذلك ، لأنّ هذه الحياة لمّا كان الرزق الناشئ عنها كائنا عند الله ، كانت حياة غير مادّية ولا دنيويّة، وحينئذ فتقديم الظرف للاهتمام بكينونة هذا الرزق. وقوله : (فَرِحِينَ) حال من ضمير (يُرْزَقُونَ).
والاستبشار : حصول البشارة ، فالسين والتاء فيه كما هما في قوله تعالى : (وَاسْتَغْنَى اللهُ) [التغابن : ٦] وقد جمع الله لهم بين المسرّة بأنفسهم والمسرّة بمن بقي من إخوانهم ، لأنّ في بقائهم نكاية لأعدائهم ، وهم مع حصول فضل الشهادة لهم على أيدي الأعداء يتمنّون هلاك أعدائهم ، لأنّ في هلاكهم تحقيق أمنية أخرى لهم وهي أمنية نصر الدين.
فالمراد (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) رفقاؤهم الذين كانوا يجاهدون معهم ، ومعنى لم يلحقوا بهم لم يستشهدوا فيصيروا إلى الحياة الآخرة.
و (مِنْ خَلْفِهِمْ) تمثيل بمعنى من بعدهم ، والتقدير : ويستبشرون بالذين لم يصيروا إلى الدار الآخرة من رفاقهم بأمنهم وانتفاء ما يحزنهم. وقوله : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) بدل اشتمال ، و (لا) عاملة عمل ليس ومفيدة معناها ، ولم يبن اسم (لا) على الفتح هنا لظهور أنّ المقصود نفي الجنس ولا احتمال لنفي الوحدة فلا حاجة لبناء النكرة على الفتح ، وهو كقول إحدى نساء حديث أمّ زرع : «زوجي كليل نهامة ، لا حرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سامة» برفع الأسماء النكرات الثلاثة.
وفي هذا دلالة على أنّ أرواح هؤلاء الشهداء منحت الكشف على ما يسرّها من أحوال الذين يهمّهم شأنهم في الدنيا. وأنّ هذا الكشف ثابت لجميع الشهداء في سبيل الله ، وقد يكون خاصّا الأحوال السارّة لأنّها لذّة لها. وقد يكون عامّا لجميع الأحوال لأنّ لذّة الأرواح تحصل بالمعرفة ، على أنّ الإمام الرازي حصر اللذّة الحقيقية في المعارف. وهي لذّة الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء ، ولو كانت سيئة.