و (من) في قوله : (مِنَ الطَّيِّبِ) معناها الفصل أي فصل أحد الضدين من الآخر ، وهو معنى أثبته ابن مالك وبحث فيه صاحب «مغني اللبيب» ، ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) وقد تقدّم القول فيه عند قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) في سورة البقرة [٢٢٠].
وقيل : الخطاب بضمير (ما أَنْتُمْ) للكفار ، أي : لا يترك الله المؤمنين جاهلين بأحوالكم من النفاق.
وقرأ الجمهور : يميز ـ بفتح ياء المضارعة وكسر الميم وياء تحتية بعدها ساكنة ـ من ماز يميز ، وقرأه حمزة ، والكسائي ويعقوب ، وخلف ـ بضمّ ياء المضارعة وفتح الميم وياء بعدها مشدّدة مكسورة ـ من ميّز مضاعف ماز.
وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ) عطف على قوله : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ) يعني أنّه أراد أن يميز لكم الخبيث فتعرفوا أعداءكم ، ولم يكن من شأن الله اطلاعكم على الغيب ، فلذلك جعل أسبابا من شأنها أن تستفزّ أعداءكم فيظهروا لكم العداوة فتطلعوا عليهم ، وإنّما قال : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) لأنّه تعالى جعل نظام هذا العالم مؤسّسا على استفادة المسبّبات من أسبابها ، والنتائج من مقدّماتها.
وقوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) يجوز أنّه استدراك على ما أفاده قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) حتّى لا يجعله المنافقون حجّة على المؤمنين. في نفي الوحي والرسالة ، فيكون المعنى : وما كان الله ليطلعكم على الغيب إلّا ما أطلع عليه رسوله ومن شأن الرسول أن لا يفشي ما أسرّه الله إليه كقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧] الآية ، فيكون كاستثناء من عموم (لِيُطْلِعَكُمْ). ويجوز أنّه استدراك على ما يفيده (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) من انتفاء اطّلاع أحد على علم الله تعالى فيكون كاستثناء من مفاد الغيب أي : إلّا الغيب الراجع الى إبلاغ الشريعة ، وأمّا ما عداه فلم يضمن الله لرسله اطلاعهم عليه بل قد يطلعهم ، وقد لا يطلعهم ، قال تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال : ٦٠].
وقوله : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) إن كان خطابا للمؤمنين فالمقصود منه الإيمان الخاصّ ، وهو التصديق بأنّهم لا ينطقون عن الهوى ، وبأنّ وعد الله لا يخلف ، فعليهم الطاعة في الحرب وغيره أو أريد الدوام على الإيمان ، لأنّ الحالة المتحدّث عنها قد يتوقع