فإنّ ذلك أسّ الدين القويم ، ولما كان الكلام المتقدم مشتملا على تعريض باليهود والنصارى الذين كذبوا بالقرآن ، وإبطال لقول وفد نجران لما طلب منهم الرسول صلىاللهعليهوسلم ـ الإسلام ـ «أسلمنا قبلك» فقال لهم : «كذبتم» روى الواحدي ، ومحمد بن إسحاق : أنّ وفد نجران لما دخلوا المسجد النبوي تكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله : «أسلما» قالا : «قد أسلمنا قبلك» قال : «كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا ، وعبادتكما الصليب» ، ناسب أن ينوّه بعد ذلك بالإسلام الذي جاء به القرآن ، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ).
واعلم أنّ جمل الكلام البليغ لا يخلو انتظامها عن المناسبة ، وإن كان بعضها استئنافا ، وإنّما لا تطلب المناسبة في المحادثات والاقتضابات.
وتوكيد الكلام بإن تحقيق لما تضمنه من حصر حقيقة الدين عند الله في الإسلام : أي الدين الكامل.
وقرأ الكسائي أن الدين ـ بفتح همزة أنّ ـ على أنّه بدل من (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨] أي شهد الله بأنّ الدين عند الله الإسلام.
والدين : حقيقته في الأصل الجزاء ، ثم صار حقيقة عرفية يطلق على : مجموع عقائد ، وأعمال يلقّنها رسول من عند الله ويعد العاملين بها بالنعيم والمعرضين عنها بالعقاب. ثم أطلق على ما يشبه ذلك مما يضعه بعض زعماء الناس من تلقاء عقله فتلتزمه طائفة من الناس. وسمّي الدين دينا لأنّه يترقب منه متّبعه الجزاء عاجلا أو آجلا ، فما من أهل دين إلّا وهم يترقّبون جزاء من رب ذلك الدين ، فالمشركون يطمعون في إعانة الآلهة ووساطتهم ورضاهم عنهم ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وقال أبو سفيان يوم أحد : اعل هبل. وقال يوم فتح مكة لما قال له العباس : أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله : «لقد علمت أن لو كان معه إله غيره لقد أغنى عنّي شيئا». وأهل الأديان الإلهيّة يترقّبون الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة ، فأول دين إلهي كان حقا وبه كان اهتداء الإنسان ، ثم طرأت الأديان المكذوبة ، وتشبّهت بالأديان الصحيحة ، قال الله تعالى ـ تعليما لرسوله ـ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] وقال : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) [يوسف : ٧٦].
وقد عرّف العلماء الدين الصحيح بأنّه «وضع إلهيّ سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير باطنا وظاهرا».