والمحاجة مفاعلة ولم يجىء فعلها إلّا بصيغة المفاعلة. ومعنى المحاجّة المخاصمة ، وأكثر استعمال فعل حاجّ في معنى المخاصمة بالباطل : كما في قوله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) [الأنعام : ٨٠] وتقدم عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) في سورة البقرة [٢٥٨].
فالمعنى : فإن خاصموك خاصم مكابرة فقل أسلمت وجهي لله.
وضمير الجمع في قوله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ) عائد إلى غير مذكور في الكلام ، بل معلوم من المقام ، وهو مقام نزول السورة ، أعني قضية وفد نجران ؛ فإنّهم الذين اهتمّوا بالمحاجّة حينئذ. فأما المشركون فقد تباعد ما بينهم وبين النبي صلىاللهعليهوسلم بعد الهجرة ، فانقطعت محاجّتهم ، وأما اليهود فقد تظاهروا بمسالمة المسلمين في المدينة.
وقد لقّن الله رسوله أن يجيب مجادلتهم بقوله : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) والوجه أطلق على النفس كما في قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] أي ذاته.
وللمفسّرين في المراد من هذا القول طرائق ثلاث : إحداها أنّه متاركة وإعراض عن المجادلة أي اعترفت بأن لا قدرة لي على أن أزيدكم بيانا ، أي أنّي أتيت بمنتهى المقدور من الحجّة فلم تقتنعوا ، فإذ لم يقنعكم ذلك فلا فائدة في الزيادة من الأدلة النظرية ، فليست محاجّتكم إياي إلّا مكابرة وإنكارا للبديهيات والضروريات ، ومباهته ، فالأجدر أن أكفّ عن الازدياد. قال الفخر : فإن المحقّ إذا ابتلي بالمبطل اللّجوج يقول : أمّا أنا فمنقاد إلى الحق. وإلى هذا التفسير مال القرطبي.
وعلى هذا الوجه تكون إفادة قطع المجادلة بجملة : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) وقوله : (أَأَسْلَمْتُمْ) دون أن يقال : فأعرض عنهم وقل سلام ، ضربا من الإدماج ؛ إذ أدمج في قطع المجادلة إعادة الدعوة إلى الإسلام ، بإظهار الفرق بين الدينين.
والقصد من ذلك الحرص على اهتدائهم ، والإعذار إليهم ، وعلى هذا الوجه فإنّ قوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) خارج عن الحاجة ، وإنّما هو تكرّر للدعوة ، أي اترك محاجّتهم ولا تترك دعوتهم.
وليس المراد بالحجاج الذي حاجّهم به خصوص ما تقدم في الآيات السابقة ، وإنّما المراد ما دار بين الرسول وبين وفد نجران من الحجاج الذي علموه فمنه ما أشير إليه في الآيات السابقة ، ومنه ما طوي ذكره.