الطريقة الثانية أنّ قوله : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) تلخيص للحجة ، واستدراج لتسليمهم إياها ، وفي تقريره وجوه ما لها إلى أنّ هذا استدلال على كون الإسلام حقا ، وأحسنها ما قال أبو مسلم الأصفهاني : إنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا متّفقين على أحقّية دين إبراهيم عليهالسلام إلّا زيادات زادتها شرائعهم ، فكما أمر الله رسوله أن يتّبع ملة إبراهيم في قوله : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣] أمره هنا أن يجادل الناس بمثل قوله إبراهيم : فإبراهيم قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩] ومحمد عليه الصلاة والسلام قال : «أسلمت وجهي لله» أي فقد قلت ما قاله الله ، وأنتم معترفون بحقيقة ذلك ، فكيف تنكرون أنّي على الحق ، قال : وهذا من باب التمسّك بالإلزامات وداخل تحت قوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥].
الطريقة الثالثة ما قاله الفخر وحاصله مع بيانه أن يكون هذا مرتبط بقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] أي فإن حاجّوك في أنّ الدين عند الله الإسلام ، فقل : إنّي بالإسلام أسلمت وجهي لله فلا ألتفت إلى عبادة غيره مثلكم ، فديني الذي أرسلت به هو الدين عند الله (أي هو الدين الحقّ وما أنتم عليه ليس دينا عند الله).
وعلى الطريقتين الأوليين في كلام المفسّرين جعلوا قوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) خارجا عن الحجة ؛ إذ لا علاقة بينه وبين كون الإسلام هو ملّة إبراهيم ، ويكون مرادا منه الدعوة إلى الإسلام مرة أخرى بطريقة الاستفهام المستعمل في التحضيض كقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] أي قل لأولئك : أتسلمون.
وعندي أنّ التعليق بالشرط لما اقتضى أنّه للمستقبل فالمراد بفعل : «حاجّوك» الاستمرار على المحاجّة : أي فإن استمرّ وفد نجران على محاجّتهم فقل لهم قولا فصلا جامعا للفرق بين دينك الذي أرسلت به وبين ما هم متديّنون به. فمعنى (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أخلصت عبوديتي له لا أوجّه وجهي إلى غيره ، فالمراد أنّ هذا كنه دين الإسلام ، وتبيّن أنّه الدين الخالص ، وأنّهم لا يلفون تديّنهم على هذا الوصف.
وقوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) معطوف على جملة الشرط المفرّعة على ما قبلها ، فيدخل المعطوف في التفريع ، فيكون تقدير النظم : ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب فقل للذين كفروا بآيات الله الذين أوتوا الكتاب والأميّين : أأسلمتم ، أي فكرّر دعوتهم إلى الإسلام.
والاستفهام مستعمل في الاستبطاء والتحضيض كما في قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ