مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١]. وجيء بصيغة الماضي في قوله : (أَأَسْلَمْتُمْ) دون أن يقول أتسلمون على خلاف مقتضى الظاهر ، للتنبيه على أنّه يرجو تحقق إسلامهم ، حتى يكون كالحاصل في الماضي.
اعلم أنّ قوله : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) كلمة جامعة لمعاني كنه الإسلام وأصوله ألقيت إلى الناس ليتدبّروا مطاويها فيهتدي الضالون ، ويزداد المسلمون يقينا بدينهم ؛ إذ قد علمنا أنّ مجيء قوله : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) عقب قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] وقوله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ) وتعقيبه بقوله : (أَأَسْلَمْتُمْ) أنّ المقصود منه بيان جامع معاني الإسلام حتى تسهل المجادلة ، وتختصر المقاولة ، ويسهل عرض المتشككين أنفسهم على هذه الحقيقة ، ليعلموا ما هم عليه من الديانة. وبيّنت هذه الكلمة أنّ هذا الدين يترجم عن حقيقة اسمه ؛ فإنّ اسمه الإسلام ، وهو مفيد معنى معروفا في لغتهم يرجع إلى الإلقاء والتسليم ، وقد حذف مفعوله ونزّل الفعل منزلة الفعل اللّازم فعلم أنّ المفعول حذف لدلالة معنى الفاعل عليه ، فكأنّه يقول : أسلمتني أي أسلمت نفسي ، فبين هنا هذا المفعول المحذوف من اسم الإسلام لئلا يقع فيه التباس أو تأويل لما لا يطابق المراد ، فعبّر عنه بقوله : (وجهي) أي نفسي : لظهور ألّا يحسن محمل الوجه هنا على الجزء المعروف من الجسد ، ولا يفيد حمله عليه ما هو المقصود ، بل المعنى البيّن هو أن يراد بالوجه كامل الذات ، كقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].
وإسلام النفس لله معناه إسلامها لأجله وصيرورتها ملكا له ، بحيث يكون جميع أعمال النفس في مرضاة الله ، وتحت هذا معان جمّة هي جماع الإسلام : نحصرها في عشرة :
المعنى الأول : تمام العبودية لله تعالى ، وذلك بألّا يعبد غير الله ، وهذا إبطال للشرك لأنّ المشرك بالله غير الله لم يسلم نفسه لله بل أسلم بعضها.
المعنى الثاني : إخلاص العمل لله تعالى فلا يلحظ في عمله غير الله تعالى ، فلا يرائي ولا يصانع فيما لا يرضي الله ولا يقدّم مرضاة غير الله تعالى على مرضاة الله.
الثالث : إخلاص القول لله تعالى فلا يقول ما لا يرضى به الله ، ولا يصدر عنه قول إلّا فيما أذن الله فيه أن يقال ، وفي هذا المعنى تجيء الصراحة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، على حسب المقدرة والعلم ، والتّصدي للحجة لتأييد مراد الله تعالى ، وهي صفة امتاز بها الإسلام ، ويندفع بهذا المعنى النفاق ، والملق ، قال تعالى في ذكر رسوله :