إلى قضية وفد نجران ولجاجتهم ، ثم محاجّة أهل الكتابين في حقيقة الحنيفية وأنّهم بعداء عنها ، وما أخذ الله من العهد على الرسل كلّهم : أن يؤمنوا بالرسول الخاتم ، وأنّ الله جعل الكعبة أول بيت وضع للناس ، وقد أعاد إليه الدين الحنيف كما ابتدأه فيه ، وأوجب حجّه على المؤمنين ، وأظهر ضلالات اليهود ، وسوء مقالتهم ، وافترائهم في دينهم وكتمانهم ما أنزل إليهم. وذكّر المسلمين بنعمته عليهم بدين الإسلام ، وأمرهم بالاتّحاد والوفاق ، وذكّرهم بسابق سوء حالهم في الجاهلية ، وهوّن عليهم تظاهر معانديهم من أهل الكتاب والمشركين ، وذكّرهم بالحذر من كيدهم وكيد الذين أظهروا الإسلام ثم عادوا إلى الكفر فكانوا مثلا لتمييز الخبيث من الطيب ، وأمرهم بالاعتزاز بأنفسهم ، والصبر على تلقّي الشدائد ، والبلاء ، وأذى العدوّ ، ووعدهم على ذلك بالنّصر والتأييد وإلقاء الرعب منهم في نفوس عدوّهم ، ثم ذكّرهم بيوم أحد ، ويوم بدر ، وضرب لهم الأمثال بما حصل فيهما ، ونوّه ، بشأن الشهداء من المسلمين ، وأمر المسلمين بفضائل الأعمال : من بذل المال في مواساة الأمة ، والإحسان ، وفضائل الأعمال ، وترك البخل ، ومذّمة الربا وختمت السورة بآيات التفكير في ملكوت الله.
وقد عملت أنّ سبب نزول هذه السورة قضية وفد نجران من بلاد اليمن. ووفد نجران هم قوم من نجران بلغهم مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم ، وكان أهل نجران متديّنين بالنصرانية ، وهم من أصدق العرب تمسّكا بدين المسيح ، وفيهم رهبان مشاهير ، وقد أقاموا للمسيحية كعبة ببلادهم هي التي أشار إليها الأعشى حين مدحهم بقوله :
فكعبة نجران حتم عليك حتّى تناخي بأبوابها
فاجتمع وفد منهم يرأسه العاقب ـ فيه ستون رجلا ـ واسمه عبد المسيح ، وهو أمير الوفد ، ومعه السّيّد واسمه الأيهم ، وهو ثمال القوم وولي تدبير الوفد ، ومشيره وذو الرأي فيه ، وفيهم أبو حارثة بن علقمة البكري ، وهو أسقفّهم وصاحب مدراسهم ووليّ دينهم ، وفيهم أخو أبي حارثة ، ولم يكن من أهل نجران ، ولكنّه كان ذا رتبة : شرّفه ملوك الروم وموّلوه. فلقوا النبي صلىاللهعليهوسلم ، وجادلهم في دينهم ، وفي شأن ألوهية المسيح ، فلمّا قامت الحجة عليهم أصرّوا على كفرهم وكابروا ، فدعاهم النبي صلىاللهعليهوسلم إلى المباهلة ، فأجابوا ثم استعظموا ذلك ، وتخلّصوا منه ، ورجعوا إلى أوطانهم ، ونزلت بضع وثمانون آية من أول هذه السورة في شأنهم كما في «سيرة ابن هشام» عن ابن إسحاق. وذكر ذلك الواحدي والفخر ، فمن ظنّ من أهل السير أنّ وفد نجران وفدوا في سنة تسع فقد وهم وهما انجرّ