وذكر هذه الصفة في أثناء صفات المدح إمّا أن يكون مدحا له ، لما تستلزمه هذه الصفة من البعد عن الشهوات المحرّمة ، بأصل الخلقة ، ولعلّ ذلك لمراعاة براءته ممّا يلصقه أهل البهتان ببعض أهل الزهد من التهم ، وقد كان اليهود في عصره في أشدّ البهتان والاختلاق ، وإمّا ألّا يكون المقصود بذكر هذه الصفة مدحا له لأنّ من هو أفضل من يحيى من الأنبياء والرسل كانوا مستكملين المقدرة على قربان النّساء فتعيّن أن يكون ذكر هذه الصفة ليحيى إعلاما لزكرياء بأنّ الله وهبه ولدا إجابة لدعوته ، إذ قال : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) [مريم : ٥ ، ٦] وأنّه قد أتمّ مراده تعالى من انقطاع عقب زكرياء لحكمة علمها ، وذلك إظهار لكرامة زكرياء عند الله تعالى.
ووسطت هذه الصفة بين صفات الكمال تأنيسا لزكرياء وتخفيفا من وحشته لانقطاع نسله بعد يحيى.
وقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) استفهام مراد منه التعجّب ، قصد منه تعرّف إمكان الولد ، لأنّه لما سأل الولد فقد تهيّأ لحصول ذلك فلا يكون قوله أنّى يكون لي غلام إلّا تطلبا لمعرفة كيفية ذلك على وجه يحقّق له البشارة ، وليس من الشك في صدق الوعد ، وهو كقول إبراهيم : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] ، فأجيب بأنّ الممكنات داخلة تحت قدرة الله تعالى وإن عز وقوعها في العادة.
و (أنّى) فيه بمعنى كيف ، أو بمعنى المكان ، لتعذّر عمل المكانين اللذين هما سبب التناسل وهما الكبر والعقرة. وهذا التعجّب يستلزم الشكر على هذه المنّة فهو كناية عن الشكر. وفيه تعريض بأن يكون الولد من زوجه العاقر دون أن يؤمر بتزوّج امرأة أخرى وهذه كرامة لامرأة زكرياء.
وقوله : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) جاء على طريق القلب ، وأصله وقد بلغت الكبر ، وفائدته إظهار تمكّن الكبر منه كأنه يتطلبه حتى بلغه كقوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء : ٧٨].
والعاقر المرأة التي لا تلد عقرت رحمها أي قطعته. ولأنه وصف خاص بالأنثى لم يؤنّث كقولهم حائض ونافس ومرضع ، ولكنه يؤنث في غير صيغة الفاعل فمنه قولهم عقرى دعاء على المرأة ، وفي الحديث : «عقرى حلقى» وكذلك نفساء.
وقوله : (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي كهذا الفعل العجيب وهو تقدير الحمل من