وأما قولها (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) فهو نفي لأن تكون بغيا من قبل تلك الساعة ، فلا ترضى بأن ترمى بالبغاء بعد ذلك. فالكلام كناية عن التنزه عن الوصم بالبغاء بقاعدة الاستصحاب ، والمعنى : ما كنت بغيّا فيما مضى أفأعدّ بغيا فيما يستقبل.
وللمفسرين في هذا المقام حيرة ذكرها الفخر والطيبي ، وفيما ذكرنا مخرج من مأزقها ، وليس كلام مريم مسوقا مساق الاستبعاد مثل قول زكرياء (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) [مريم : ٨] لاختلاف الحالين لأن حال زكرياء حال راغب في حصول الولد ، وحال مريم حال متشائم منه متبرئ من حصوله.
والبغيّ : اسم للمرأة الزانية ، ولذلك لم تتصل به هاء التأنيث ، ووزنه فعيل أو فعول بمعنى فاعل فيكون أصله بغوي. لأنه من البغي فلما اجتمع الواو والياء وسكن السابق منهما قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء الأصلية وعوض عن ضمة الغين كسرة لمناسبة الياء فصار بغي.
وجواب الملك معناه : أن الأمر كما قلت ، نظير قوله في قصة زكرياء : (كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ، وهو عدول عن إبطال مرادها من المراجعة إلى بيان هون هذا الخلق في جانب القدرة على طريقة الأسلوب الحكيم.
وفي قوله (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) توجيه بأن ما اشتكته من توقع ضدّ قولها وطعنهم في عرضها ليس بأمر عظيم في جانب ما أراد الله من هدي الناس لرسالة عيسى عليهالسلام بأن الله تعالى لا يصرفه عن إنفاذ مراده ما عسى أن يعرض من ضر في ذلك لبعض عبيده ، لأنّ مراعاة المصالح العامة تقدم على مراعاة المصالح الخاصة.
فضمير (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) عائد إلى ما تضمنه حوارها من لحاق الضر بها كما فسرنا به قولها (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا). فبين جواب الملك إياها وبين جواب الله زكرياء اختلاف في المعنى.
والكلام في الموضعين على لسان الملك من عند الله ، ولكنه أسند في قصة زكرياء إلى الله لأن كلام الملك كان تبليغ وحي عن الله جوابا من الله عن مناجاة زكرياء ، وأسند في هذه القصة إلى الملك لأنه جواب عن خطابها إياه.
وقوله (وَلِنَجْعَلَهُ) عطف على (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) باعتبار ما في ذلك من قول الرّوح لها (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) ، أي لأن هبة الغلام الزكي كرامة من الله لها ، وجعله