وهذه الإشارة قد علمها النبي صلىاللهعليهوسلم وهي من الأسرار التي بينه وبين ربه حتى كان المستقبل تأويلها كما علم يعقوب سرّ رؤيا ابنه يوسف ، فقال له : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) [يوسف : ٥]. ولم يعلم يوسف تأويلها إلا يوم قال : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [يوسف : ١٠٠] يشير إلى سجود أبويه له.
وأما ظاهر الآية الذي تلقاه الناس يوم نزولها فهو أن الجند هم كفار أهل مكة وأن التنوين فيه للنوعية ، أي ما هم إلا جند من الجنود الذين كذبوا فأهلكوا ، وأن الإشارة ب (هُنالِكَ) إلى مكان اعتباري وهو ما هم فيه من الرفعة الدنيوية العرفية وأن الانهزام مستعار لإضعاف شوكتهم ، وعلى التفسيرين الظاهر والمؤول لا تعدو الآية أن تكون تسلية للرسولصلىاللهعليهوسلم وتثبيتا له وبشارة بأن دينه سيظهر عليهم.
والجند : الجماعة الكثيرة قال تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ* فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) [البروج : ١٧ ، ١٨].
و (ما) حرف زائد يؤكد معنى ما قبله فهي توكيد لما دلّ عليه (جُنْدٌ) بمعناه ، وتنكيره للتعظيم ، أي جند عظيم ، لأن التنوين وإن دلّ على التعظيم فليس نصا فصار بالتوكيد نصا. وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) في سورة البقرة [٢٦] ، فإن كانت الآية مشيرة إلى يوم بدر فتعظيم (جُنْدٌ) لأن رجاله عظماء قريش مثل أبي جهل وأمية بن خلف ، وإن كانت مشيرة إلى يوم الأحزاب فتعظيم (جُنْدٌ) لكثرة رجاله من قبائل العرب.
ووصف (جُنْدٌ) ب (مَهْزُومٌ) على معنى الاستقبال ، أي سيهزم ، واسم المفعول كاسم الفاعل مجاز في الاستقبال ، والقرينة حاليّة وهو من باب استعمال ما هو للحال في معنى المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه فكأنه من القرب بحيث هو كالواقع في الحال.
و (الْأَحْزابِ) : الذين على رأي واحد يتحزّب بعضهم لبعض ، وتقدم في سورة الأحزاب.
و (مِنَ) للتبعيض. والمعنى : أن هؤلاء الجند من جملة الأمم وهو تعريض لهم بالوعيد بأن يحلّ بهم ما حلّ بالأمم ، قال تعالى : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) [غافر : ٣٠ ، ٣١].