وثانيا : بأن الذي حصل لداود عليهالسلام فزع وليس بخوف. والفزع أعمّ من الخوف إذ هو اضطراب يحصل من الإحسان بشيء شأنه أن يتخلص منه وقد جاء في حديث خسوف الشمس «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج فزعا ، أي مسرعا مبادرا للصلاة توقّعا أن يكون ذلك الخسوف نذير عذاب» ، ولذلك قال القرآن (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) ولم يقل : خاف. وقال في إبراهيم عليهالسلام (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) [الذاريات : ٢٨] أي توجّسا ما لم يبلغ حدّ الخوف. وأما قول الخصم لداود (لا تَخَفْ) فهو قول يقوله القادم بهيئة غير مألوفة من شأنها أن تريب الناظر.
وثالثا : أن الأنبياء مأمورون بحفظ حياتهم لأن حياتهم خير للأمة فقد يفزع النبي من توقع خطر خشية أن يكون سببا في هلاكه فينقطع الانتفاع به لأمته. وقد جاء في حديث عائشة : «أن النبي صلىاللهعليهوسلم أرق ذات ليلة فقال : ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة إذ سمعنا صوت السلاح فقال : من هذا؟ قال : سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك. قالت : فنام النبي صلىاللهعليهوسلم حتى سمعنا غطيطه». وروى الترمذي : أن العباس كان يحرس النبيصلىاللهعليهوسلم حتى نزل قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] فتركت الحراسة.
ومعنى (بَغى بَعْضُنا) اعتدى وظلم. والبغي : الظلم ، والجملة صفة ل (خَصْمانِ) والرابط ضمير (بَعْضُنا) ، وجاء ضمير المتكلم ومعه غيره رعيا لمعنى (خَصْمانِ).
ولم يبينا الباغي منهما لأن مقام تسكين روع داود يقتضي الإيجاز بالإجمال ثم يعقبه التفصيل ، ولإظهار الأدب مع الحاكم فلا يتوليان تعيين الباغي منهما بل يتركانه للحاكم يعيّن الباغي منهما في حكمه حين قال لأحدهما : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ).
والفاء في (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِ) تفريع على قوله : (خَصْمانِ) لأن داودعليهالسلام لمّا كان ملكا وكان اللذان حضرا عنده خصمين كان طلب الحكم بينهما مفرعا على ذلك.
والباء في (بِالْحَقِ) للملابسة ، وهي متعلقة ب (فَاحْكُمْ). وهذا مجرد طلب منهما للحق كقول الرجل للنبي صلىاللهعليهوسلم الذي افتدى ابنه ممن زنى بامرأته : فاحكم بيننا بكتاب الله.