والحق : هو ما يقتضيه العدل الشرعي من معاملة الناس بعضهم بعضا وتصرفاتهم في خاصّتهم وعامّتهم ويتعين الحق بتعيين الشريعة. والباء في (بِالْحَقِ) باء المجازية ، جعل الحق كالآلة التي يعمل بها العامل في قولك : قطعه بالسكين ، وضربه بالعصا.
وقوله : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) معطوف على التفريع ، ولعله المقصود من التفريع. وإنما
تقدم عليه أمره بالحكم بالحق ليكون توطئة للنهي عن اتباع الهوى سدّا لذريعة الوقوع في خطأ الحق فإن داود ممن حكم بالحق فأمره به باعتبار المستقبل. والتعريف في (الْهَوى) تعريف الجنس المفيد للاستغراق ، فالنهي يعمّ كل ما هو هوى ، سواء كان هوى المخاطب أو هوى غيره مثل هوى زوجه وولده وسيده ، وصديقه ، أو هوى الجمهور : (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف : ١٣٨].
ومعنى الهوى : المحبة ، وأطلق على الشيء المحبوب مبالغة ، أي ولو كان هوى شديدا تعلق النفس به. والهوى : كناية عن الباطل والجور والظلم لما هو متعارف من الملازمة بين هذه الأمور وبين هوى النفوس ، فإن العدل والإنصاف ثقيل على النفوس فلا تهواه غالبا ، ومن صارت له محبة الحق سجية فقد أوتي العلم والحكمة وأيّد بالحفظ أو العصمة.
والنهي عن اتباع الهوى تحذير له وإيقاظ ليحذّر من جراء الهوى ويتّهم هوى نفسه ويتعقبه فلا ينقاد إليه فيما يدعوه إليه إلا بعد التأمل والتثبت ، وقد قال سهل بن حنيف رضياللهعنه : «اتهموا الرّأي» ، ذلك أن هوى النفس يكون في الأمور السهلة عليها الرائقة عندها ومعظم الكمالات صعبة على النفس لأنها ترجع إلى تهذيب النفس والارتقاء بها عن حضيض الحيوانية إلى أوج الملكية ، ففي جميعها أو معظمها صرف للنفس عما لاصقها من الرغائب الجسمانية الراجع أكثرها إلى طبع الحيوانية لأنها إما مدعوة لداعي الشهوة أو داعي الغضب فالاسترسال في اتباعها وقوع في الرذائل في الغالب ، ولهذا جعل هنا الضلال عن سبيل الله مسببا على اتباع الهوى ، وهو تسبب أغلبي عرفي ، فشبه الهوى بسائر في طريق مهلكة على طريقة المكنية ورمز إليه بلازم ذلك وهو الإضلال عن طريق الرشاد المعبر عنه بسبيل الله ، فإن الذي يتبع سائرا غير عارف بطريق المنازل النافعة لا يلبث أن يجد نفسه وإياه في مهلكة أو مقطعة طريق.
واتّباع الهوى قد يكون اختيارا ، وقد يكون كرها. والنهي عن اتباعه يقتضي النهي عن جميع أنواعه ؛ فأما الاتّباع الاختياري فالحذر منه ظاهر ، وأما الاتباع الاضطراري