تفيد تعليلا لمجازاة الله نوحا بما عده من النعم بأن ذلك لأنه كان محسنا ، أي متخلقا بالإحسان وهو الإيمان الخالص المفسّر في قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، وأي دليل على إحسانه أجلى من مصابرته في الدعوة إلى التوحيد والتقوى وما ناله من الأذى من قومه طول مدة دعوته.
والمعنى : إنا مثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين. وفي هذا تنويه بنوح عليهالسلام بأن جزاءه كان هو المثال والإمام لجزاء المحسنين على مراتب إحسانهم وتفاوت تقاربها من إحسان نوح عليهالسلام وقوته في تبليغ الدعوة. فهو أول من أوذي في الله فسنّ الجزاء لمن أوذي في الله ، وكان على قالب جزائه ، فلعله أن يكون له كفل من كل جزاء يجزاه أحد على صبره إذا أوذي في الله ، فثبت لنوح بهذا وصف الإحسان ، وهو النعمة السابعة. وثبت له أنه مثل للمحسنين في جزائهم على إحسانهم ، وهي النعمة الثامنة.
وجملة (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) تعليل لاستحقاقه المجازاة الموصوفة بقوله : (ذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) فاختلف معلول هذه العلة ومعلول العلة التي قبلها.
وأفاد وصفه ب (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا) أنه ممن استحق هذا الوصف ، وقد علمت غير مرة أن وصف (عبد) إذا أضيف إلى ضمير الجلالة أشعر بالتقريب ورفع الدرجة ، اقتصر على وصف العباد بالمؤمنين تنويها بشأن الإيمان ليزداد الذين آمنوا إيمانا ويقلع المشركون عن الشرك. وهذه نعمة تاسعة. وأقحم معها من (عِبادِنَا) لتشريفه بتلك الإضافة على نحو ما تقدم آنفا في قوله تعالى : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ* أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ٤٠ ـ ٤١] وهذه نعمة عاشرة ، وفي ذلك تنبيه على عظيم قدر الإيمان.
وفي هذه القصة عبرة للمشركين بما حلّ بقوم نوح وتسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم وجعل نوح قدوة له ، وإيماء إلى أن الله ينصره كما نصر نوحا على قومه وينجّيه من أذاهم وتنويه بشأن المؤمنين. و (ثُمَ) التي في قوله : (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) للترتيب والتراخي الرتبيين لأن بعض ما ذكر قبلها في الكلام هو مما حصل بعد مضمون جملتها في نفس الأمر كما هو بيّن ، ومعنى التراخي الرتبي هنا أن إغراق الذين كذّبوه مع نجاته ونجاة أهله ، أعظم رتبة في الانتصار له والدلالة على وجاهته عند الله تعالى وعلى عظيم قدرة الله تعالى ولطفه.
ومعنى (الْآخَرِينَ) من عداه وعدا أهله ، أي بقية قومه ، وفي التعبير عنهم بالآخرين ضرب من الاحتقار. ومما في الحديث أنه جاءه رجل فقال : «إن الآخر قد زنى» يعني نفسه على رواية الآخر بمدّ الهمزة وهي إحدى روايتين في الحديث.