والتولي : الإعراض والمفارقة.
لم ينطق إبراهيم فإن النجوم دلته على أنه سقيم ولكنه لما جعل قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) مقارنا لنظره في النجوم أو هم قومه أنه عرف ذلك من دلالة النجوم حسب أوهامهم.
و (مُدْبِرِينَ) حال ، أي ولّوه أدبارهم ، أي : ظهورهم. والمعنى : ذهبوا وخلفوه وراء ظهورهم بحيث لا ينظرونه. وقد قيل : إن (مُدْبِرِينَ) حال مؤكدة وهو من التوكيد الملازم لفعل التولي غالبا لدفع توهّم أنه تولّي مخالفة وكراهة دون انتقال. وما وقع في التفاسير في معنى نظره في النجوم وفي تعيين سقمه المزعوم كلام لا يمتع بين موازين المفهوم ، وليس في الآية ما يدل على أن للنجوم دلالة على حدوث شيء من حوادث الأمم ولا الأشخاص ومن يزعم ذلك فقد ضلّ دينا ، واختل نظرا وتخمينا. وقد دوّنوا كذبا كثيرا في ذلك وسموه علم أحكام الفلك أو النجوم.
وقد ظهر من نظم الآية أن قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) لم يكن مرضا ولذلك جاء الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات اثنتين منهن في ذات الله عزوجل قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) ، وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء : ٦٣] ، وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة فسأله عن سارة فقال : «هي أختي» الحديث ، فورد عليه إشكال من نسبة الكذب إلى نبيء.
ودفع الإشكال : أن تسمية هذا الكلام كذبا منظور فيه إلى ما يفهمه أو يعطيه ظاهر الكلام وما هو بالكذب الصراح بل هو من المعاريض ، أي أني مثل السقيم في التخلف عن الخروج ، أو في التألم من كفرهم وأن قوله : «هي أختي» أراد أخوّة الإيمان ، وأنه أراد التهكم في قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء : ٦٣] لظهور قرينة أن مراده التغليط.
وهذه الأجوبة لا تدفع إشكالا يتوجه على تسمية النبي صلىاللهعليهوسلم هذا الكلام بأنه كذبات. وجوابه عندي : أنه لم يكن في لغة قوم إبراهيم التشبيه البليغ ، ولا المجاز ، ولا التهكّم ، فكان ذلك عند قومه كذبا وأن الله أذن له فعل ذلك وأعلمه بتأويله كما أذن لأيوب أن يأخذ ضغثا من عصيّ فيضرب به ضربة واحدة ليبرّ قسمه إذ لم تكن الكفارة مشروعة في دين أيوب عليهالسلام.
وفعل «راغ» معناه : حاد عن الشيء ، ومصدره الرّوغ والروغان ، وقد أطلق هنا على الذهاب إلى أصنامهم مخاتلة لهم ولأجل الإشارة إلى تضمينه معنى الذهاب عدّي ب (إِلى).