أمّا القرآن الكريم فقد أطلق الحوار معهم من موقع عقلاني متحرك فقال في آية موحية في قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [المائدة : ١٠٤] وفي الآية التي نحن بصدد تفسيرها : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [البقرة : ١٧٠] فإن مسألة الاقتداء والاهتداء لا بد لها من أن تنطلق من الموقع الذي يملك أساس القدوة من خلال أنه يملك مسئولية الفكر وقوّته ، ويلتزم أساس الهدى من خلال العلم الواسع العميق ، والعقل المنفتح الدقيق ، والرؤية الواضحة الواسعة ، والهدى المشرق ، تماما كما هو الرجوع إلى أهل الخبرة والمعرفة الذين تطمئن النفس إليهم ، ويستريح العقل والعلم والهدى عندهم ، بل ربما كان آباؤهم أكثر علما وأوسع عقلا وأكثر تجربة منهم ، ما يجعل من تقليدهم واتباعهم لهم أمرا لا يرتكز على أساس ما يرتبط بالشكل لا بالمضمون ، وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة في قوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف : ٤٠] فهي مجرد أسماء ترنّ في أسماعكم بعيدا عن مضمونها الحقيقي الذي تناقشه عقولكم.
وهكذا نجد أن القرآن لا يطرح عليهم الرفض المطلق لعقائد آبائهم في البداية ، بل يقول لهم ـ في عملية دعوة للدخول في مقارنة بين ما يعبد آباؤهم ، وما يفكرون به ويسيرون عليه ، ودعوة النبي للإسلام في عقيدته وفكرته وعبادته ومنهجه وذلك قوله تعالى : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [الزخرف : ٢٤].
إنه يدعوهم لمناقشة هذا المنهج المتعالي في الهداية والوعي ليرفضوا الفكر الأدنى وليختاروا الفكر الأهدى. وهكذا أراد القرآن لهم أن يفكروا ويحاوروا ويختاروا من موقع ذلك ، لكن التعصب الأعمى أغلق عقولهم