كانت ، إذا لم تتحرك من إيمان عميق بأصول الإيمان ، ولم تنطلق في حركة الإيمان سبيلا وغاية ، لأنها إذا لم تكن كذلك تتحول إلى إحساس يطفو على السطح ولا يلامس الأعماق ، مما يجعل من الموقف موقف استعراض لا موقف ارتكاز ، وبهذا ، فليس من الضروري أن يثور هذا اللغط الكثير حول تغيير طبيعة القبلة إلى الشرق أو إلى الغرب ، فهي لا تزيد عن أن تكون مجرد تشريع جزئي كبقية التشريعات الجزئية المتعلقة بأحكام العبادة في تفاصيلها الخاصة الكثيرة ، ومن الطبيعي أن يخضع المؤمنون للتشريع في سلبياته وإيجابياته ، فلا يعترضوا عليه في قليل أو كثير إذا أحرزوا انطلاقه من مصدر التشريع وهو الله ، بل لا بد من أن يتركز الاهتمام والجدل حول الأسس التي يرتكز عليها البناء الداخلي للنفس البارّة الخيّرة التي تعيش البر موقفا شاملا لجميع مجالات الحياة.
ونلاحظ في هذا المجال أن الآية قد غيّرت أسلوبها التعبيري ، فبينما كان النفي يتجه إلى استبعاد الشكل عن معنى البرّ نرى الإثبات ينطلق في الحديث عن شخصية البارّ وصفته ، للتدليل على أنّ الإسلام ينظر إلى الفكرة من خلال المفكر ، وإلى الخير من خلال النموذج الحيّ المتجسد بالفكرة شكلا ومضمونا ، ليبتعد الجو النفسي عن التركيز على المفهوم النظري بعيدا عن الواقع التطبيقي للنظرية ، وهذا هو ما نلمحه في تكملة الآية في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فلا بد من الإيمان بالأسس العامة للعقيدة ، وهي الإيمان (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) لأنها تمثل الحقائق الدينية التي لا يمكن أن يجهلها أو يهملها أيّ إنسان مؤمن ، لأن جميع الرسالات السماوية قد قررت ذلك.
* * *