حسب إمكانات ومقتضيات ذلك العصر.
ولم تمض فترة على تلك الهجرة الميمونة إلّا ونور الرسالة المحمدية يغمر جميع بقاع شبه الجزيرة العربية ، وظهر الإسلام كقوّة سياسية وعسكرية يحسب لها حسابها ، ثمّ وبعد فترة وجيزة تحوّل ذلك الكيان إلى حكومة قوية في الساحة العالمية ، ووضع الأسس الرئيسية لحضارة عظمى لم يُرَ مثلها من قبل ذلك ، واستطاعت أن تغطي قسماً كبيراً من أرجاء المعمورة ، كلّ ذلك حدث ببركة الهجرة النبوية الميمونة ، وإلّا لبقي المسلمون يعيشون في ذلك المحيط المكّي الضاغط الذي يحصي عليهم أنفاسهم ويتابع خطواتهم بدقّة ومراقبة صارمة.
من هنا اهتمّ المسلمون بحادث الهجرة واعتبروه بداية تاريخهم ، منذ ذلك اليوم وإلى الآن ، حيث مضى أكثر من ألف وأربعمائة سنة طوت الأُمّة الإسلامية أربعة عشر قرناً من تاريخها الزاهر وماضيها النيّر ، وقد دخلنا ولله الحمد العقد الثالث من القرن الخامس عشر الهجري. هذا تمام الكلام في هذه المسألة وبقي الكلام في البحث الثاني وهو :
مَن الذي جعل الهجرة مبدأ للتاريخ الإسلامي؟
المشهور بين المؤرّخين أنّ الخليفة الثاني هو الذي اعتبر الهجرة النبوية الشريفة مبدأ للتاريخ الإسلامي ، باقتراح وتأييد من الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ، وأمر أن تؤرّخ الدواوين والرسائل والعهود وما شابه ذلك بذلك التاريخ. (١)
إلّا أنّ الإمعان في مكاتيب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ومراسلاته ـ والتي نقل لنا التاريخ وكتب السيرة والمصنفات الحديثية القسم الأعظم منها ـ والأدلّة الأُخرى ، يظهر
__________________
(١). تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٤٥.