لكن الشارع قد رخّص لنا عدم التحرّز عنه كما رخّص بل أمر بالإقدام على المضار المعلومة كتعريض النفس للجهاد ونحوه لمصلحة وحكمة غالبة كالمثوبات الأخروية ، ثم ذكر وجها آخر لوجوب دفع الضرر المحتمل شرعا وهو أنّ الضرر المظنون دفعه واجب جزما بحكم العقل فيجب شرعا بقاعدة الملازمة ، ولم يفرّق أحد بين الضرر المظنون بالظن غير المعتبر والضرر المحتمل ، فيجب دفع الضرر المحتمل بالاحتياط لعدم القول بالفصل.
والتحقيق أن يقال : إنّ العقل حاكم بوجوب دفع الضرر المحتمل وإن كان دنيويا ، لكن حكمه هذا بالوجوب إرشادي لا يترتب على مخالفته سوى الوقوع في ذلك الضرر لو صادفه الاحتمال لا الوجوب الذي يترتب على مخالفته العقاب ، وبيان ذلك أنّ حكم العقل على قسمين : قسم يحكم بالوجوب أو الحرمة بحيث يترتب على مخالفته استحقاق الذم والعقاب كحكمه بقبح الظلم وحرمته ، وقسم يحكم بالوجوب لكن لا بحيث يترتب على مخالفته شيء سوى الوقوع في الضرر الذي أقدم المكلف عليه كحكمه بوجوب التحرّز عن العقاب الأخروي فإنّه لا يترتب على مخالفته إلّا الوقوع في ذلك العقاب الذي لم يتحرّز عنه ولا يستحق على هذه المخالفة عقابا آخر من جهة هذا الوجوب العقلي وإلّا تسلسل.
فنقول : إنّ حكم العقل بوجوب دفع المضار الدنيوية من قبيل الثاني ، فلا يستلزم حكما شرعيا بالوجوب بحيث يكون على مخالفته عقاب أخروي كما هو المطلوب هنا بوجوب الاحتياط كما يدّعيه الأخباري (١).
__________________
(١) أقول : الانصاف أنّ العقل يحكم بقبح تعريض النفس للضرر بحيث يلام عليه ويستحق الذم الأكيد ويعدّ عند العقلاء سفيها أو متسفّها ، فهو نظير الظلم المتسالم عليه بقبحه وحرمته فليتأمل.