أشدّ خفاء من النور ، ظاهر بآثاره ، خفيّ بكنهه وحقيقته.
وهذه هي نفس صفاته تعالى إذا ما لاحظنا حقيقة وجوده ، القائم بذاته ، المظهر لغيره ، الذي خفيت حقيقته وظهرت آثاره ، وهو الله جلّ جلاله ، وعظمت كبرياؤه.
وهكذا نجد القرآن ، في استدلالاته ، قد جمع بين أسلوبين يختلفان في شرائطهما ، هما : أسلوب الخطابة ، وأسلوب البرهان ، ذاك إقناع للجمهور بما يتسالمون به من مقبولات القضايا ومظنوناتها ، وهذا إخضاع للعلماء بما يتصادقون عليه من أوّليات ويقينيّات. ومن الممتنع في العادة أن يقوم المتكلم بإجابة ملتمس كلا الفريقين ، ليجمع بين المظنون والمتيقّن ، في خطاب واحد ، الأمر الذي حقّقه القرآن بعجيب بيانه وغريب أسلوبه.
وقد بحثنا عن ذلك وأتينا بأمثلة عليه في مباحثنا عن الإعجاز البياني للقرآن (١).
وجهة خامسة : قد أكثر القرآن من أنواع الاستعارة وأجاد في فنونها ، وكان لا بدّ منه وهو آخذ في توسّع المعاني توسّع الآفاق ، في حين تضايقت الألفاظ عن الإيفاء بمقاصد القرآن ، لو قيّدت بمعانيها الموضوعة لها المحدودة النطاق.
جاء القرآن بمعان جديدة على العرب لم تكن تعهدها ، وما وضعت ألفاظها إلّا لمعان قريبة ، حسب حاجاتها في الحياة البسيطة البدائيّة القصيرة المدى. أما التعرّض لشئون الحياة العليا المترامية الأبعاد ، فكان غريبا على العرب الأوائل
__________________
(١) راجع : التمهيد ، ج ٥ ، ص ٤٩٩ فصل (الاستدلال في القرآن)