عند الفراغ من حجّتهم بعد أيّام التشريق ، يقفون بين مسجد منى وبين الجبل ، ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ، ويتناشدون فيها الأشعار ، ويتكلمون بالمنثور من الكلام ، ويريد كل واحد منهم من ذلك الفعل ، حصول الشّهرة والترفّع بمآثر سلفه. فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لربّهم كذكركم لآبائهم أو أشدّ ذكرا» (١).
وهكذا لما تساءل بعضهم : ما وجه قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)(٢) أي لا حرج عليه ولا مأثم في السعي بين الصفا والمروة. وظاهره نفي البأس ، أي عدم المنع ، وهو لا يقتضي الوجوب ، مع أنّ قوله تعالى ـ في صدر الآية ـ : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ...) يستدعي الوجوب ؛ لأنه خبر في معنى الأمر؟!
وقد كان ذلك موضع تساؤل منذ أوّل يومه. أخرج الطبري بإسناده إلى عمرو ابن حبيش قال : قلت لعبد الله بن عمر : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ، قال : انطلق إلى ابن عباس فاسأله فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قال : فأتيت ابن عباس فسألته ، فقال : إنّه كان عندهما أصنام ، فلما أسلموا أمسكوا عن الطّواف بينهما حتى أنزلت (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ)(٣).
كان المشركون قد وضعوا على الصفا صنما يقال له : «أساف» ، وعلى المروة «نائلة». فلمّا اعتمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عمرة القضاء تحرّج المسلمون عن السعي
__________________
(١) الفخر الرازي ، ج ٥ ، ص ١٨٣.
(٢) البقرة / ١٥٨.
(٣) تفسير الطبري ، ج ٢ ، ص ٢٨ ، الدر المنثور ، ج ١ ، ص ١٥٩ ، البقرة / ١٥٨.