عبارات لائحة يستجيد فهمها العامّة فهما كانت لهم فيه قناعة نفسيّة كاملة ، ولكنّها إلى جنب إشارات غامضة كانت للخاصة ، فيحلّوا من عقدها ، ويكشفوا من معضلها ، حسبما أوتوا من مهارة علمية فائقة.
وبذلك قد وفّق القرآن في استعمالاته للجمع بين معان ظاهرة وأخرى باطنة ؛ لتفيد كل لفظة معنيين أو معاني متراصّة ، وربما مترامية حسب ترامي الأجيال والأزمان ، الأمر الذي كان قد امتنع حسب المتعارف العام ، فيما قال الأصوليون : من امتناع استعمال لفظة واحدة وإرادة معان مستقلة. لكن القرآن رغم هذا الامتناع نراه قد استسهله ، وأصبح منهجا له في الاستعمال.
كان ممن سلف من الأصوليين من يرى امتناع استعمال اللفظ وإرادة معنيين امتناعا عقليّا ، نظرا إلى أن حقيقة الاستعمال ليس مجرّد جعل اللّفظ علامة لإرادة المعنى ، بل جعله وجها وعنوانا له ، بل بوجه نفسه كأنّه الملقى ؛ ولذا يسري إليه قبحه وحسنه. وعليه فلا يمكن جعل اللفظ كذلك إلّا لمعنى واحد ، ضرورة أن لحاظه كذلك لا يكاد يمكن إلّا بتبع لحاظ المعنى ، فانيا فيه فناء الوجه في ذي الوجه ، والعنوان في المعنون ، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر كذلك في استعمال واحد ، مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه الأوّل في نفس الوقت. هكذا جاء في تقرير كلام العلّامة الأصولي الكبير المحقق الخراساني (١).
وجاء الخلف ليجعلوا من هذا الامتناع العقلي ممكنا في ذاته ، وممتنعا في
__________________
٩٥.
(١) هو المولى محمد كاظم الخراساني صاحب كفاية الأصول. (راجع : حقائق الأصول للإمام الحكيم ، ج ١ ، ص ٨٩ ـ ٩٠)