ويظهر من النص المتقدم عن الإمام الباقر أنه كان يريد أن يوجه الأمة في عصر انشغلت فيه بمباحث الصفات إلى صرف ماهية العبادة إلى الذات الالهية ، تحجيما لتلك التيارات من أن تخوض في الصفات فيؤثر ذلك الخوض على طبيعة العبادة التي أجمع المسلمون على أنها الغاية من الخلق ، ويؤيده في ذلك قوله تعالى (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فكان تفسير الإمام الباقر تأكيدا على العبادة قبل كل شيء ، وكذلك بالنسبة للمفسرين فقد جاءت تفاسيرهم للآية المتقدمة لتؤكد صحة ما ذهب إليه الإمام أبو جعفر الباقر.
ثانيا : في تفسير قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)(١) ، فقد روي عن الإمام الباقر أنه قال : أي وسع علمه السموات والأرض (٢).
قال البخاري عن سعيد بن جبير : كرسيه أي علمه (٣) ، ونقل الطبري اختلاف أهل التأويل فيه فقال : ذهب ابن عباس إلى أنه علم الله تعالى ، حيث أسند الطبري هذه الرواية عن أبي كريب وسلمة بن جنادة عن مطرف عن جعفر بن المغيرة عن ابن عباس (٤). ثم عرض إلى الروايات الأخريات من قبيل موضع القدمين وأسند ذلك إلى الأشعري أبي موسى ، وذكر القول الثالث بأن معنى الكرسي : هو العرش نفسه مسندا ذلك إلى الحسن البصري ، ولكن الطبري قال : ولكل هذه الأقوال وجه ، وصوب قول ابن عباس وسعيد والإمام الباقر فقال : ويؤيده ظاهر القرآن لقوله : (وَلا يَؤُدُهُ) أي لا يئوده حفظ ما علم وأحاط به فاصل الكرسي العلم وأثبت ذلك بشواهد شعرية أيضا (٥).
وذهب الزمخشري إلى القول : في تفسير الكرسي أربعة أوجه ، أحدها : تصوير لعظمته ، والثاني : علمه ، والثالث : ملكه ، والرابع : قدرته ، ورجح الوجه الأول وهو ما يتفق مع منهجه الاعتزالي في التأويل (٦).
__________________
(١) البقرة / ٢٥٥.
(٢) التبيان في تفسير القرآن ، الشيخ الطوسي ، ٢ / ٢٥٤+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ٢ / ٣٦٢.
(٣) صحيح البخاري ، ٦ / ٣٨.
(٤) جامع البيان ، الطبري ، ٣ / ٧.
(٥) المصدر نفسه ، ٣ / ٧ ـ ٨.
(٦) الكشاف ، الزمخشري ، ١ / ٢٩٩.