٣ ـ إن تفسير الإكراه في الآية بالمعنى الأول «ما يقابل الرضا» لا يناسبه قوله تعالى :
(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) «٢ : ٢٥٦».
الا بأن يكون المراد بيان علة الحكم ، وان عدم الإكراه إنما هو لعدم الحاجة إليه من جهة وضوح الرشد وتبيّنه من الغي ، وإذا كان هذا هو المراد فلا يمكن نسخه ، فإن دين الإسلام كان واضح الحجة ، ساطع البرهان من أول الأمر ، إلا أن ظهوره كان يشتد شيئا فشيئا ، ومعنى هذا أن الإكراه في أواخر دعوة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أحرى بأن لا يقع لأن برهان الإسلام في ذلك العهد كان أسطع ، وحجته أوضح ، ولما كانت هذه العلة مشتركة بين طوائف الكفار ، فلا يمكن تخصيص الحكم ببعض الطوائف دون بعض ، ولازم ذلك حرمة مقاتلة الكفار جميعهم ، وهذه نتيجة باطلة بالضرورة.
فالحق : أن المراد بالإكراه في الآية ما يقابل الاختيار ، وأن الجملة خبرية لا إنشائية ، والمراد من الآية الكريمة هو بيان ما تكرر ذكره في الآيات القرآنية كثيرا ، من أن الشريعة الإلهية غير مبتنية على الجبر ، لا في أصولها ولا في فروعها ، وإنما مقتضى الحكمة إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإيضاح الأحكام ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة ، ولئلا يكون للناس على الله حجة ، كما قال تعالى :
(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) «٧٦ : ٣».
وحاصل معنى الآية أن الله تعالى لا يجبر أحدا من خلقه على إيمان ولا طاعة ، ولكنه يوضح الحق يبينه من الغي ، وقد فعل ذلك ، فمن آمن بالحق فقد آمن به عن اختيار ، ومن اتبع الغي فقد اتبعه عن اختيار والله سبحانه وإن كان قادرا على أن يهدي البشر جميعا ـ ولو شاء لفعل ـ لكن الحكمة اقتضت لهم أن يكونوا غير