٨٤ ـ (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) تجدد حزنه على يوسف ، وترك الناس جانبا منصرفا إلى همه وحزنه (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أصيبتا بالقرحة (فَهُوَ كَظِيمٌ) لا يظهر حزنه لأحد ، بل يتجرعه ويتجلد على حساب جسمه وأعصابه.
٨٥ ـ (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) مالك لا تفارق ذكر يوسف في ليل ونهار (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) مريضا (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) مع الأموات ، وأية جدوى من الحزن والبكاء؟ فارفق بنفسك وبأهلك ، وبالمناسبة نشير إلى أن الله سبحانه أدبنا نحن أمة محمد (ص) بآداب القرآن الكريم ، وأمر أحدنا إذا أصيب بمصيبة أن يقول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) ـ ١٥٧ البقرة».
٨٦ ـ (قالَ) يعقوب : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) لا إلى الناس ، والمراد بالبث هنا الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه ، فيبثه وينفثه بلسانه. (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أرجو من الله كل خير ، وأعلم أن رؤيا يوسف صادقة ، ولكن لا أعلم أين هو؟ وكيف حاله؟ ولذا قال لبنيه :
٨٧ ـ (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا) تعرفوا واستعلموا (مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ) أي من فرجه (إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) والجاهلون ، لأن المؤمن لا ييأس ، وأيضا العاقل لا ييأس ، بل يحاول ويناضل ، وليس تاريخ الإنسانية إلا جهادا ومحاولة مستمرة ، والكسول الجبان هو الذي يقعد مع القواعد ، ويلقي اللوم والمسئولية على الحظ أو على الذين من حوله ، أما الشجاع الطموح فيسير إلى آخر الشوط مستعينا بالله وجهاده والصبر على كل شدة ومحنة ، وهذا هو سبيل الناجحين والخالدين أوصى يعقوب بنيه أن يعودوا إلى مصر مرة ثالثة ، فسمعوا ورجعوا إلى العزيز ٨٨ ـ (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) رديئة بالأمس طغوا على يوسف وبغوا ، وألقوا به في غيابة الجب كأنه حصاة أو نواة ، واليوم يقفون بين يديه يتذلّلون ويخضعون متوسلين : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) فيا له من درس لمن يستصغر الضعفاء ، ويتحرك بكبرياء؟ وهذا كتاب الله والعيان والتاريخ من فرعون إلى نابليون ، إلى هتلر ، كل أولاء يقولون : ما من أحد تصور نفسه كبيرا أو عظيما إلا وأصبح بعد حين أحقر من حقير.
٨٩ ـ (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ). هل علمتم : عتاب يحمل في أحشائه النصح والرحمة ، وفي الوقت نفسه ينفث فيه المصدور همه ، ويشفي غيظه ، وبهذا الموقف وأمثاله يثبت المرء قيمته كإنسان يستحق التبجيل والاحترام.
٩٠ ـ (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) قالوا هذا وانتظروا الجواب ، فكانت هذه المفاجأة التي لا تخطر لهم على بال : (قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بما ترون