الكلمات التي أباحتها نفوسهم الطاهرة ، لما أمكن للأجيال معرفة مبلغهم من العلم واليقين ، وتفاضلهم في الملكات ، وطموحهم إلى أبعد الغايات السامية ، والثبات على المبدأ بإخلاص وبصيرة.
فسيّد الشهداء أراد بذلك اختبار نفوسهم ـ والإختبار من الحكيم العالم بما كان ويكون ، لا يحطُّ من علمه ووقوفه على الخفايا بعد أن كانت الغاية الملحوظة له ثمينة ، والمقصد سام. وهو الذي أشرنا إليه من التعريف بملكات أصحابه ، وأهل بيته (عليهم السّلام) ـ ولا غرابة في هذا الإختيار بعد أن صدر مثله من (فاطر الأكوان) جلّ شأنه ، الذي لا يغادر علمه صغيراً ولا كبيراً ؛ فيأمر خليله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وهو لا يريده ، مع العلم بطاعة رسوله الخليل ، وثبات نبيّه إسماعيل ، لولا المصلحة التي يعلمها ربّ العالمين وإن انحسرت عن إدراكها العقول. وقصّة الأقرع ، والأبرص ، والأعمى تشهد بأنّ الله تعالى إنّما أراد بالإنعام عليهم ؛ التعريف لمن يقف على قصّتهم بلزوم الشكر على الإنعام ، وإنّ الكفران عاقبته الخسران (١).
وأبو عبد الله (ع) أراد بهذا الإختبار ؛ تعريف الأجيال مبوّأ أهل بيته وصحبه من الشرف ، والعزِّ ، وطهارة أعراقهم ، وخضوعهم لما فيه مرضاة الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
إنّ العلم بمبلغ أي رجل في العالم من الطهارة ، والثبات على المبدأ ، والطاعة للأصلح المرضي للمولى تعالى ، لا يحصل إلا بأقواله المشفوعة بالعمل الصحيح ، أو بشهادة مَن له الوقوف على حركاته وسكناته. ولم يخفَ على كلّ أحد قصور التأريخ الذي بأيدينا ، عن كثير من أعمال الرجال الصالحين ، الذين بذلوا كلَّ ما لديهم من جاه وحرمات في سبيل تأييد الشريعة الحقّة ، ولم يحمل التأريخ شيئاً من أعمال اُولئك الصفوة (شهداء كربلاء) ؛ لنتشوَّف منه قداسة ضمائرهم ، وخلوص نيّاتهم ، وتزكية تفوسهم ، غير ذلك المشهد الدامي. ولولا تلك الأقوال التي صارح بها أصحابُ الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته ، حينما أبدى لهم الرخصة في مفارقته ، وأباح لهم تخليهم عنه مع القوم الذين تجمهروا عليه ، لما عرفنا تفاضلهم في الملكات ، وتفاوتهم في النظرات البعيدة الغور ، والفضيلة التي لمْ يستوفها البشر
__________________
(١) صحيح البخاري كتاب الأنبياء ـ باب الأقرع والأبرص ٤ ص ١٤٦ وفتح الباري ٦ ص ٣٢٣ في هذا الباب.