والعلم نور يقذفه الله تعالى في قلب مَن يشاء من عباده ، مع التفاوت شدّةً وضعفاً.
فهذا مسلم بن عوسجة الأسدي ، لم يكشف التأريخ عن أعماله الخالدة ، ومزاياه الصالحة بقليل ولا كثير ، غير كلمة شبث بن ربعي : أنّه غزا مع المسلمين (آذربيجان) وقتل ستّة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين. وما عسى أن يعرف منها القارئ إلا مدى ولائه الأكيد لخلفاء النّبي (ص) ، وعدم تغيّره بتطوّر الزمن وملابسات الأحوال ، ولكنّ قوله للحسين (ع) : أنحن نخليِّ عنك ولمّا نعذر إلى الله تعالى في أداء حقّك؟ أما والله لا اُفارقك حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح اُقابلهم به لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت معك.
أفادنا بصيرة بثبات الرجل على المبدأ في آخر مرحلة من مراحل الوجود ، وأنّه لا يهمه في سبيل مرضاة الله تعالى ورسوله كلّ ما يلاقيه من آلام وجروح دامية. وقد شفّع هذا القول بالجهود في العمل حين استقبل السيوف والرماح بصدره ونحره ، كما لم يقتنع بهذا حتّى أوصى حبيب بن مظاهر الأسدي ـ ذلك الذي استفاد علم المنايا والملاحم من أمير المؤمنين (ع) ـ بنصرة الحسين (عليه السّلام) ؛ ولأنّه لا يعذر عند رسول الله (ص) بالتقصير في حقّه وهو في آخر رمق من الحياة ، وفاضت نفسه الغالية على هذه العقيدة والطاعة (١).
وتابعه في إخلاص الولاء والمفاداة سعيد بن عبد الله الحنفي ، إذ يقول : والله لا نخلِّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله (ص) فيك ، والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ أُذرَّى ، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك. فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!.
فوقف دون أبي عبد الله (ع) ، ونصح في الذّب عنه ، ولمْ يقنعه ما أصابه من الجروح الدامية ، حين استُهدف لأعداء الله تعالى دون الحسين (عليه السّلام) وهو
__________________
(١) يذكرني هذا التفاني دون ابن بنت المصطفى اعتذار سعد بن أبي وقّاص لمّا طلب منه أمير المؤمنين (ع) نصرته ، فقال : إني أكره الخروج في هذه الحرب فاصيب مؤمناً إلا أن تعطيني سيفاً يعرف المؤمن من الكافر!!. كتاب الجمل للشيخ المفيد ص ٥٩ ط ٢.