ثمّ يقول ابن أبي شبيب للحسين (ع) يوم الطفِّ : ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعزّ علي منك ، ولو قدرت أن أدفع الضيم عنك بشيء أعزّ عليَّ من نفسي لفعلت (١).
بلى يابن أبي شبيب ، إنّ الرجال المخلصين لله تعالى ، المتفانين في خدمته لا يرون الوجود إلا متلاشي الأطراف ، والبقاء الأبدي بنصرة الإمام علّة الكائنات ومدار الموجودات.
ثمّ يقوم نافع بن هلال فيقول : والله ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ، إنّا على نيّاتنا وبصائرنا ؛ نوالي من والاك ونعادي من عاداك. ويتكلّم أصحابه بما يشبه ذلك.
ولمّا أذِن (عليه السّلام) لأهل بيته بالإنصراف قالوا بأجمعهم بصوت واحد : أنفعل ذلك لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً ، ثمّ التفت إلى بني عقيل وقال : «حسبكم من القتل بمسلم ، قد أذِنتُ لكم». فانطلقت ألسنتهم تعبّر عمّا أضمر في جوانحهم من النصرة للدِّين ، والذبِّ عن شخص الإمام الحُجّة (ع) ، فقالوا : إذَن ما نقول للناس؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولمْ نرمِ معهم بسهم ، ولمْ نطعن برمح ، ولمْ نضرب بسيف؟ لا والله لا نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ؛ نقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك.
إنّ هذه المفاداة في ذلك المأزق الحرج ، الذي تقطّعت فيه خطوط المدد ، وسدّ دونهم باب الورود المباح للحيوانات ، تكشف عن بلوغهم أسمى صفات الكمال ، وتجرّدهم عن عوارض الدنيا الفانية. ولو كانوا يحملون أقلّ شيء من الرغبة في البقاء والتبلغ في هذا الوجود ؛ لاتّخذوا الإذن بالمفارقة ذريعة يتذرّعون بها يوم الحساب ، ولكنّ هذه النّفوس التي فطرها ربّ العالمين من طينة القداسة ، وامتزجت بنور اليقين لا ترغب في البقاء إلا أن تحقّ الحقّ ، أو تبطل الباطل. وهل تستمرئ العيش وهي تعلم ما يلاقيه فلذة كبد الرسول (ص) ، ومهجة الإسلام من الجروح الدامية ، والأوام المبرح :
__________________
(١) تاريخ الطبري ٦ ص ٢٥٤.