قولنا : إنه منادى مخصّص أنّ حليما وجوادا وعالما ونحوها صفات يوصف بها الباري جلّ جلاله ويوصف بها المخلوقون ، وهي وإن اتّفقت ألفاظها متباينة في المعاني ، كما أنّ إذا قلنا في الباري تعالى : إنه سميع بصير ، وقلنا في زيد : إنه سميع بصير ، فالمعنى مختلف وإن اتفقت العبارة ، لأنّ زيدا سميع بأذن بصير بحدقة لأنّه ذو جوارح وأبعاض ، والله تعالى منزّه عن مثل هذه الصفات ، جلّ عمّا يصفه به الجاهلون وتقدّس ممّا يقول فيه المبطلون ، وإنما نريد بقولنا فيه : إنه سميع وإنه بصير أنّه لا يغيب عنه شيء من خلقه وأنّه مشاهد لجميع حركاتهم وأعمالهم ، لا يخفى عنه مثقال الذّرّة ، ولا يغيب عنه ما تجنّه الصدور ويختلج به الضمير ، ولذلك إذا قلنا : إنّ زيدا حيّ فإنّما نريد بذلك أنّ له نفسا حسّاسة مقترنة بجسم ، وإذا قلنا في الباري تعالى : إنه حيّ فإنما نريد بذلك أنّه مدرك للأشياء ، ويجوز أن يراد بذلك أنّه موجود لم يزل ولا يزال ، والعرب تسمى الوجود حياة والعدم موتا ، فيقولون للشمس ما دامت موجودة حيّة ، فإذا عدمت سمّوها ميّتة ، قال ذو الرمة : [الطويل]
٥٨٠ ـ فلمّا رأين اللّيل والشّمس حيّة |
|
حياة الّذي يقضي حشاشة نازع |
شبّه الشمس عند غروبها بالحيّ الذي يجود بنفسه ، وقال آخر يصف النار : [الطويل]
٥٨١ ـ وزهراء إن كفّنتها فهو عيشها |
|
وإن لم أكفّنها فموت معجّل |
فجعل وجود النار حياة وعدمها موتا ، ولم نرد بإنشاد هذين البيتين تمثيل حياة الباري تعالى بالحياة المذكورة فيهما لأنّ ما ذكره الشاعران من ذلك مجاز واستعارة وحياة الباري تعالى وجميع صفاته حقائق لا تشبّه بشيء من صفات المحدثات ولا تكيّف ، وإنّما تؤخذ توقيفا وتسليما لا قياسا ، وقد اجتمع العارفون بحدود الكلام على أنّ الاشتراك في الأسماء لا يوجب التشابه بين المسمّيات بها ، وإنّما تشبّه الأشياء باتفاقها في المعاني لا في الألفاظ ، وليس بين الباري تعالى وبين مخلوقاته اشتباه في معنى من المعاني ، فإذا أرادوا أن يجعلوا هذه الصفات مختصّة به تعالى زادوا عليها ألفاظا تخصّصها وتجعلها مقصورة عليه ، فقالوا : يا حليما لا يعجل ويا جوادا لا يبخل ، ويا عالما لا يجهل ، ونحو ذلك ، فصارت هذه الصفات خاصة لا يصح أن يوصف بها غيره ، لأنّ كلّ حليم فلا بدّ له من طيش وهفوة ، وكلّ جواد فلا بدّ له من بخل وعلّة ،
__________________
٥٨٠ ـ الشاهد لذي الرمة في ديوانه (ص ٨٠١) ، وأساس البلاغة (حشش) ، وتاج العروس (شرق) ، والعمدة (١ / ٢٧٥).
٥٨١ ـ البيت بلا نسبة في أمالي القالي (٢ / ٨٨).