فأمّا قول بعض المتأخّرين في (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ) [الرعد : ٣٦] ، و (إِنَّما أَشْكُوا) [يوسف : ٨٦] ونحو ذلك من الآيات : إنّ الضمير محصور ولم يفصل ، فلا يتشاغل به ولو صحّ خرج نحو (١) : [الطويل]
[أنا الذائد الحامي الذّمار] وإنّما |
|
يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي |
عن الاستشهاد به ، وكان ضرورة لمخالفته للاستعمال.
الدليل الثالث : أنّ إنّ للإثبات ، و (ما) للنّفي ، والنفي والإثبات ضدّان فلا يجتمعان في محلّ واحد ، فوجب أن يصرف أحدهما للمذكور ، والآخر إلى غيره ليصحّ اجتماعهما. لا جائز أن يكون المنفيّ هو المذكور ، والمثبت هو ما عداه ، للاتّفاق على أنّ قولك : «إنّما زيد قائم» يفيد إثبات القيام لزيد ، فإذا بطل ذلك تعيّن العكس وهو نفي القيام عن غير زيد وإثباته لزيد ، ولا معنى للحصر إلّا هذا. هذا حاصل كلام الإمام فخر الدّين ومن تبعه ، وهو فاسد المقدّمتين لأنّ (إنّ) للتأكيد لا للإثبات ، بدليل أنّك تقول : «إنّ زيدا قائم» و «إنّ زيدا ليس بقائم» ، فتجدها إنّما دخلت لتأكيد الكلام نفيا كان أو إثباتا. و (ما) زيد مثلها في قولك «ليتما زيدا قائم» لا نافية.
الدليل الرابع : أنّ (إنّ) للتّأكيد ، و (ما) حرف زائد للتّاكيد ، فلمّا أخذوا الحكم من بين مؤكّدين ناسب أن يكون مختصّا بالمسند إليه قاله السكّاكي ، وليس بشيء لأنّه لازم له في قولك : «إنّ زيدا لقائم» لأنّ (إنّ) واللام معا للتأكيد ، ثمّ إنّك تقول : «أحلف بالله إن زيدا لقائم» فتجمع بين ثلاث مؤكّدات ، القسم ، و (إنّ) ، واللام ، ولا يفيدها هذا الحصر باتّفاق.
واستدلّ من قال : إنّها ليست للحصر بقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال : ٢] ، فلو كان معناه : ما المؤمنون إلّا الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، لزم سلب الإيمان عمّن لا يوجل قلبه عند ذكر الله تعالى والإجماع منعقد على خلافه.
والجواب أنّ المراد بالمؤمنين : الكاملو الإيمان ، ولا شكّ أنّ من لا يوجل قلبه
__________________
(١) مرّ الشاهد رقم (١٤٢).