وأقول : هذا إنّما يتمشّى له في المتقدّم المرفوع فأمّا في المنصوب والمجرور فلا يتمشّى ، فنحو : «زيدا ضربت وأكرمت» ونحو «بزيد مررت واتّبعت» لم يقتض تعليله امتناع التّنازع فيه واقتضاه تعميمه المنع ، فالذي ينبغي ألّا يحكم بمنع التّنازع في المتقدّم مطلقا ، بل بشرط كونه مرفوعا. وينبغي أن يكون الفريقان في ذلك متّفقين على اختيار إعمال الأوّل لأنّه أسبق العاملين وأقربهما إلى المعمول. وكذا لا يمتنع تنازع العاملين معمولا متوسطا بينهما كقولك : «إن تجد زيدا تؤدّب» ، وهذه المسألة ينبغي أن يكون إعمال الأوّل فيها أرجح عند الجميع ، لتساويهما في القرب ، وفضّل الأوّل بالسّبق ، وأنّ إعماله ينفي الإضمار قبل الذّكر. فهذا ما اقتضاه ظاهر الأمر عندي ، ولست مبتدعا في ذلك بل متّبعا فقد نقل أبو حيّان إجازة التنازع في المتقدّم في تفسير سورة براءة ، وأنّ بعضهم جعل منه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] ، قال : والأكثرون على منعه. وذكر ابن هشام الخضراويّ في (شرح الإيضاح) عن أبي عليّ أنّه أجاز في قوله : [البسيط]
٦٦٣ ـ [قد أوبيت كلّ ماء فهي طاوية] |
|
مهما تصب أفقا من بارق تشم |
أن يكون (أفقا) ظرفا ل (تشم) ، و (بارقا) مفعول به منصوب ب (تشم) أيضا ، و (من) زائدة لأنّ الكلام غير إيجاب لتقدّم الشّرط ، ومفعول (تصب) محذوف ، أي : مهما تصبه ، والهاء عائدة على البارق أو الأفق. قال ابن هشام (٢) : «وهذا من تنازع العاملين مع التوسّط وقلّما يذكره النحويّون» انتهى. والحقّ أولى بالاتّباع من الوقوف مع قول الجمهور فإنّهم ذكروا علّة لم يظهر اطّرادها.
شاهدت بخطّ الإمام العلّامة ركن الدّين أبي عبد الله محمّد الشهير بابن القوبع ـ رحمه الله ـ : [الخفيف]
أبلغ العالمين عنّي بأنّ |
|
كلّ علم تصوّر وقياس |
قد كشفت الأشياء بالعقل حتّى |
|
ظهرت لي فليس فيها التباس |
وعرفت الرّجال بالعلم لمّا |
|
عرف العلم بالرجال الناس |
__________________
٦٦٣ ـ الشاهد لساعدة بن جؤية في خزانة الأدب (٨ / ١٦٣) ، والدرر (٥ / ٧٠) ، وشرح أشعار الهذليين (٣ / ١١٢٨) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص ١٥٠) ، وشرح شواهد المغني (١ / ١٥٧) ، ولسان العرب (أبي) ، و (صوي) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب (٩ / ٢٦) ، ومغني اللبيب (١ / ٣٣٠) ، وهمع الهوامع (٢ / ٥٧).
(١) يريد ابن هشام الخضراوي.