من كلام المخبر عنه ، هذا الذي شهد به الاستقراء وقضى به الذوق الصحيح ، فلا يقول أحد ابتداء «مررت بدار كذا» ولا «.... بدار كذا وكذا» بل يقول : «... بالدار الفلانيّة» ، ويقول من يخبر عنه قال فلان مررت بدار كذا ، أو : ... بدار كذا وكذا ، وذلك لنسيان اعترى المخبر أو لغير ذلك. ومنه ما جاء في حديث الحساب ـ أعاذنا الله من سوء فيه ـ : «أتذكر يوم كذا وكذا فعلت فيه كذا وكذا» (١). وقول من قال : «أما بمكان كذا وكذا وجذ إنّما الكناية فيه من كلام من حكى عن غيره ، ألا ترى أنّهم حكوا أنّه قيل له في الجواب : بلى وجاذا (٢) ولو كان السائل كانيا لم يعلم مراده ، ولم تقبح إجابته بالتّعيين ،ودعوى أنّ المسؤول علم ما كني عنه على خلاف الأصل والظاهر. وغلط جماعة فجعلوا من هذا القسم قوله (٣) :[مجزوء الوافر]
وأسلمني الزمان كذا |
|
[فلا طرب ولا أنس] |
والحقّ أنّ ذلك ليس من الكناية في شيء وقد مضى.
الضرب الثاني : ـ وهو الغالب ـ أن يكنى بها عن عدد مجهول الجنس والمقدار.
وهذه والتي قبلها مركّبتان من شيئين : أحدهما الكاف ، والظاهر أنّها الكاف الحرفيّة المفيدة للتشبيه ، لأنّها القسم الغالب من أقسام الكاف كما ركّبوها مع (أنّ) في (كأنّ) نحو قولك «كأنّ زيدا أسد». والثاني : (ذا) التي للإشارة كما ركّبوها مع (حبّ) في (حبّذا) ومع (ما) في نحو : ماذا صنعت ، في أحد التّقادير. ولا يحكم على (ذا) بأنّها في موضع جرّ ، ولا على الكاف بأنّها متعلّقة بشيء ، ولا بأنّ فيها معنى التّشبيه ، وإن كان باقيا بعد التركيب في (كأنّ) ، إلا أنّه لا معنى له هنا ، فلا وجه لتكلّف ادّعائه لأنّ التركيب كثيرا ما يزيل معنى المفردين ، ويحدث بمجموعهما معنى لم يكن ، ويحكم على مجموع الكلمتين بأنّه في موضع رفع أو نصب أو جرّ بحسب العوامل الدّاخلة عليها. ويدلّ على أنّ الأمر كذلك أمور :
أحدها : أنّ (ذا) لا تؤنّث لتأنيث تمييزها ، تقول له : «عندي كذا وكذا أمة» ولا تقول : «... كذه وكذه ...».
والثاني : أنّها لا تتبع بتابع ، لا يقولون : «كذا نفسه رجلا».
__________________
(١) أخرجه مسلم في صحيحه (٣ / ٤٧).
(٢) انظر الكتاب (١ / ٣١٢).
(٣) مرّ الشاهد رقم (٦٦٧).