أنّ قولهم : ما أتاني من أحد ، وقوله تعالى : (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ*) [الأعراف : ٨] و [العنكبوت : ٢٨] ، متناول غاية العموم. ولو حاولت أن تقول : «أتاني من أحد» كان ذلك داخلا في باب استحالة الكلام.
ويشبه ما ذكرته من الاستغناء بدخول الاسم المبتدأ في اسم العموم الذي بعده عن عود ضمير إليه من الجملة تكرير الاسم الظاهر مستغنى به عن ذكر المضمر ، وذلك إذا أريد تفخيم الأمر وتعظيمه كقول عديّ بن زيد : [الخفيف]
٦٨١ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء |
|
نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا |
واستغنى بإعادة ذكر الموت عن الهاء لو قال مع صحّة الوزن (يسبقه). ومثله في التنزيل : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ـ ٢] ، (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) [القارعة : ١ ـ ٢] ، (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٢٧] ، فالحاقّة : مبتدأ ، وقوله (ما الحاقّة) جملة من مبتدأ وخبر ، خالية من ضمير يعود على المبتدأ ، لأنّ تكرير الظاهر أغنى عن الضّمير العائد ، فالتقدير : أيّ شيء الحاقّة ، وكذلك (ما القارعة) و (ما أصحاب اليمين) التقدير فيهما : أيّ شيء القارعة ، وأيّ شيء أصحاب اليمين ، كما تقول : «زيد رجل أيّ رجل» فاستغني بتكرير الظاهر عن أن يقال : الحاقّة ما هي ، والقارعة ما هي ، وأصحاب اليمين ما هم.
وإنما حسن تكرير الاسم الظّاهر في هذا النحو لأنّ تكريره هو الأصل ، ولكنّهم استعملوا المضمرات فاستغنوا بها عن تكرير المظهرات إيجازا واختصارا ، فلمّا أرادوا الدّلالة على التّفخيم جعلوا تكرير الظّاهر أمارة لما أرادوه من ذلك. وأمّا معنى البيت فإنّه أراد ذمّ الذين خاطبهم فيه فأراد : ليس عندكم قتال وقت احتياجكم إليه ، ولا تحسنونه ، وإنّما عندكم أن تركبوا الخيل وتسيروا في المواكب العراض.
وفي البيت حذف اقتضاه إقامة الوزن لم يسأل عنه صاحب هذه المسائل ، وهو حذف الفاء من جواب أمّا ، وذلك أنّ (أمّا) حرف استئناف وضع لتفصيل الجمل. وحكم الفاء بعده حكم الفعل في امتناعها من ملاصقة (أمّا) ، لأنّ الفاء إذا اتّصلت بالجزاء صارت كحرف من حروفه ، فكما لا يلاصق فعل الجزاء فعل الشّرط كذلك
__________________
٦٨١ ـ الشاهد لعدي بن بن زيد في ديوانه (ص ٦٥) ، وخزانة الأدب (١ / ٣٧٨) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص ٣٦) ، ولسوادة بن عدي في الكتاب (١ / ١٠٦) ، وشرح شواهد المغني (٢ / ٨٧٦) ، ولسوادة أو لعديّ في لسان العرب (نغص) ، وشرح أبيات سيبويه (١ / ١٢٥) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (١ / ١٥٣) ، وخزانة الأدب (١١ / ٣٦٦) ، والخصائص (٣ / ٥٣).