قيل : ولأنّ (أفعل) مع (من) كالمتضايفين ، ولا يفصل بينهما بأجنبيّ على قول الجمهور ، ولا بغيره إلّا لضرورة. وقد اعترض على هذا التعليل بأنّ الفصل إنّما يلزم على تقدير أن يتقدّم (أحسن) ويتأخّر (منه) ، أمّا على تقدير أن يتقدّم الكحل أو يتأخر عن منه بأن يقال : «ما رأيت رجلا الكحل أحسن في عينه منه» ، أو «ما رأيت رجلا أحسن في عينه منه الكحل» فلا يلزم ذلك المحذور. وأجاب بدر الدين ابن مالك ووافقه الحديثي بأنّ في تقديم الكحل تقديم غير الأهمّ لا لضرورة ، إذ الامتناع من رفع أفعل الظاهر ليس لعلّة موجبة إنّما هو لأمر استحسانيّ ، ولذلك اطّرد عن بعض العرب رفعه الظّاهر ، فيجوز التخلّف عن مقتضاه إذا زاحمه ما رعايته أولى ، وهو تقديم ما هو أهمّ ، وإيراده في الذّكر أتمّ ، وذلك صفة ما يستلزم صدق الكلام تخصيصه نفي صفة رجل في المسألة بأحسن قال : ألا ترى أنّك لو قلت : «ما رأيت رجلا» كان صدق الكلام موقوفا على تخصيص رجل بأمر يمكن أنّه لم يحصل لمن رأيته من الرجال ؛ لأنّه ما من راء إلّا وقد رأى رجلا ما ، فلمّا كان الصدق موقوفا على الخمصّص ، وهو الوصف ، كان تقديمه مطلوبا فوق كلّ مطلوب ، واغتفر ما يترتّب على التّقديم من الخروج عن الأصل ومطلوبيّة المخصّص في الإثبات دون مطلوبيّته في النّفي ، لأنّه في الإثبات يزيد الفائدة ، وفي النّفي يصون الكلام عن كونه كذبا ، فلا يقتضي ذلك جواز مثله في الإثبات. وهذا الكلام مع طوله واختصاري له قد يقال إنّ فيه (أحسن) وحده ليس صفة ، إنّما هو جزء الصّفة ، وكذا الكحل جزء الصّفة.
وأجاب عن تأخير الكحل عن (منه) بأنّه تجنب عن قبح اجتماع تقديم الضّمير على مفسّره وإعمال الخبر في ضميرين لمسمّى واحد ، وليس هو من أفعال القلوب. ويقال له : إنّك قد أوجبت على تقدير أن يرفع أن يكون الكحل مبتدأ ، وهو إذا تأخّر لم يضرّ عود الضمير عليه ولم يقبح ، نحو : «في داره زيد» ، وهل ذلك إلّا مثل : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [طه : ٦٧] في الإعراب المشهور ، لكنّ جعله مبتدأ مخبرا عنه بالكحل هو قياس قول سيبويه في نحو : «من أبوك» لأنّه إذا وضع موضعه يبقى الكلام على وضعه ، وحينئذ يمتنع لعود الضمير على متأخّر لفظا ورتبة ، وتصير مثل : «صاحبها في الدّار» وينبغي أن يحمل قول الشيخ أبو عمرو في تقدير تقديم (منه) على (الكحل) أنّه يلزم منه عود الضّمير على غير مذكور ، على أنّه بناه على قاعدة سيبويه التي ذكرناها ، فإن قيل : هذا التعليل لا يتأتّى في العبارة الثالثة وهي : «ما رأيت كعين زيد أحسن فيها الكحل» فإنّ الرفع لا يحصل به ذلك المحذور ، قلت : هذه فرع الأولى فكما لا يجوز الرفع في الأصل كذا في الفرع ، ولأنّ المحذور واقع في التّقدير. وقال الرّشيد سعيد : قد جوّزوا في التقدير ما لا يجوز في