فعدلوا عن البحث فيه وعن المعنى إلى أنّ ذلك لا يقال في القرآن. وقال بعضهم : (إلّا) بمعنى الواو لا تعطف الجمل ، ولا يقدّر في القرآن. وهذا من العجيب فقد حمل الأخفش على ذلك قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة : ١٥٠] واستشهد على ذلك بقول الشاعر : [الكامل]
٧٥٢ ـ وأرى لها دارا بأغدرة السّ |
|
يدان لم يدرس لها رسم |
إلّا رمادا هامدا دفعت |
|
عنه الرّياح خوالد سحم |
أي : وأرى لها دارا ورمادا. وقال الفرّاء في قوله تعالى ـ وحكى عنه ذلك مكّيّ واستحسنه ـ فقال : «قوله تعالى : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [يونس : ٦١] ، حمل هذا اللّفظ على ظاهره وجعل قوله : (إلّا في كتاب) متّصلا بما قبله أوجب أنّ أشياء تعزب عن الله ، وهي في كتاب مبين ، تعالى الله عن ذلك. ومثله في الأنعام : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) [الأنعام : ٥٩] ، ولكن (إلّا) وما بعدها منقطعة ممّا قبلها على إضمار بعد (لا) تقديره : وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّة ولا أصغر من ذلك ولا أكبر تمّ الكلام ، فلا شيء يعزب عنه لا إله إلّا هو ، ثمّ ابتدأ فقال : (وهو في كتاب مبين) و (إلا) في موضع الواو و (هو) مضمرة». قال أبو محمّد مكّيّ عقب حكايته ذلك : «هذا قول حسن لو لا أنّ جميع البصريّين لا يعرفون (إلا) بمعنى الواو». وكذلك قال مكّيّ : «وكذلك قال قوم في قوله تعالى : (يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [النجم : ٣٢] : إنّ معناه واللّمم». قال مكي : «وكون إلّا بمعنى الواو بعيد شاذّ ، ولو جعلت (إلّا) بمعنى (لكن) لكان أقرب وأجود ، فكأنّه قال : لكن هو في كتاب مبين ، وهذا أحسن في التأويل والاستعمال من قول صاحب الكتاب : إنّ (إلّا) بمعنى الواو. وكون (إلّا) بمعنى (لكن) مستعمل كثير ، وكونها بمعنى الواو لا يعرف فحمل الكلام على المعروف المستعمل أولى. والإضمار لا بدّ منه في القولين جميعا ، وبه يتمّ الكلام» انتهى ما ذكر مكّيّ ، وقد علمت منه أمورا :
أحدها : أنّ الجرجانيّ جوّز ما جوّزناه.
الثاني : أنّ مكّيّا استحسنه إذ قال : لو لا أنّ جميع البصريّين لا يعرفون (إلّا) بمعنى الواو. وعلى مكّيّ في ذلك اعتراض فقد سبق لك النقل عن الأخفش سعيد بن
__________________
٧٥٢ ـ البيتان للمخبل السعدي في ديوانه (ص ٣١٢) ، والبيت الأول في اللسان (إلا) ، وبلا نسبة في تاج العروس (إلا) ، والبيت الثاني بلا نسبة في لسان العرب (خلد) ، وتاج العروس (خلد).